إبراهيم الأمين
ليس معلوماً ما إذا كان الرئيس نبيه بري ينتظر فعلاً حصوله سريعاً على أجوبة الولايات المتحدة الأميركية من الاستحقاق الرئاسي. وإذا حصل أن نجح رئيس المجلس في انتزاع أجوبة قاطعة الآن، فهذا يعني أن الولايات المتحدة تخوض حرباً عقائدية ضد المعارضة في لبنان، وهو أمر ممكن في زمن عجائب جورج بوش. وإلا فإن المنطق الذي قامت عليه السياسة الأميركية إزاء لبنان حافظ على لعبة الوقت. وتماماً كما سوريا في كل الاستحقاقات السابقة، كانت الإدارة الأميركية تخفي موقفها الفعلي حتى ربع الساعة الأخير.
وبحسب متابعين للاتصالات الجارية مع الأميركيين، فإن السفير جيفري فيلتمان العائد حديثاً من الولايات المتحدة، يتحدث بقوة عن موقف بلاده الداعم لفريق 14 آذار. وهو يبدي حرصاً على تماسك هذا الفريق، مع إدراك منه بأن أي موقف حاسم منذ الآن قد يفتح الباب على أمور كثيرة قد يكون من بينها ما يؤدي إلى إضعاف تجمع الفريق الحاكم بأكثر مما هو عليه الآن.
ويعود هؤلاء بالذاكرة إلى زمن انتخابات الرئيس فؤاد شهاب، إثر الأحداث التي كانت تنذر بانفجار أمني كبير في لبنان، وحسمت واشنطن يومها موقفها بناءً على صفقة مع الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر الذي كان في حينه رئيساً للجمهورية العربية المتحدة بين سوريا ومصر. ويشعر الأميركيون اليوم بأن الوضع القائم فيه الكثير من عناصر الشبه، لكن ذلك لا يعني بالضرورة ذهاب الولايات المتحدة نحو صفقة مع الطرف الآخر الممثل الآن بسوريا وإيران، وربما ظلت إدارة الرئيس بوش على موقفها الداعم لفريق الأكثرية، حتى لو حصلت مضاعفات سلبية. لذلك فإن من غير المنطقي أن تكشف عن أوراقها منذ الآن.
لكن هل تترك الولايات المتحدة القوى الأخرى تصنع تسوية لا تناسب تطلعاتها أو تهدد الوضع الذي تعيشه قوى الأكثرية اليوم؟
الأرجح لا، إذ إن التحرك الفرنسي كشف عن الصورة الملتبسة إزاء القيام بتسوية تأخذ بالهواجس الإقليمية لناحية منع الانفجار الأمني في لبنان. بل أكثر من ذلك فإن موقف واشنطن عطل مساعي كانت باريس تعتقد أن بمقدورها تثميرها اتفاقاً يتم على يد دبلوماسيتها ويحظى بدعم وتغطية عواصم بارزة مثل طهران والرياض من دون أن يأخذ بكامل الاعتبارات الأميركية أو السورية على حد سواء، ولا سيما أن في الفريق الفرنسي العامل على ملف لبنان الآن من يعتقد بأن هناك تقاطعاً أميركياً ـــــ سورياً قد يمنع تحقيق التسوية سريعاً، وأن هذا التقاطع يترجم بالتشدد الذي يبرز فجأة في مواقف «الصقور» من فريقي المعارضة والموالاة. ويذكرون هنا على وجه التحديد رفض كل من وليد جنبلاط وسمير جعجع أي اتفاق على رئيس من خارج 14 آذار، وكلام حزب الله والتيار الوطني الحر عن ضرورة قيام حكومة وفاق وطني قبل أي انتخابات رئاسية.
لكن فرنسا التي تسعى إلى كسب بعض الأطراف إلى جانبها، تواجه بعض المخاوف الإضافية الموجودة عند فئات لبنانية بارزة. ويكشف معنيون في هذا السياق أن البطريرك الماروني نصر الله صفير كان قد ذهب بعيداً في تغطية أي اتفاق يوصل قائد الجيش العماد ميشال سليمان إلى الرئاسة إذا كان هذا الخيار بمثابة الحل في ظل الانقسام القائم، وهو الأمر الذي كان يفترض أن يحظى بدعم قوى أخرى مثل الولايات المتحدة وفرنسا. ونقل عن صفير قوله إنه تنازل عن ثوابت في خطابه العام، مثل استعداده للقبول بتعديل دستوري خلافاً لكل ما كان يقوله في السنوات الـ15 الماضية، كذلك تنازل عن رفضه الشخصي لوصول جنرال من الجيش إلى رئاسة الجمهورية بخلاف ما كان يعلنه ويضمره إزاء الرئيس إميل لحود وإزاء ترشيح العماد ميشال عون.
ويكشف أصحاب هذا الرأي عن وجود أسباب عدة لموقف صفير من الاستحقاق الرئاسي، بينها أنه لا يقبل بنصاب يقل عن الثلثين، لأنه لا يفهم كيف سيأتي رئيس ويحكم لبنان ويرفضه سلفاً غالبية ساحقة من الشيعة ونصف المسيحيين وأقلية مقبولة من السنة والدورز، وبالتالي فإن موقفه هذا عام ولا يخص فريقاً دون آخر. وإنه يقول صراحة: لو كان العكس قائماً لوقفت الموقف نفسه، ولن أقبل برئيس لا يقبل به السنة والدروز، ولو كان يحظى بدعم غالبيتين مسيحية وشيعية. ثم يضيف صفير: إن قبولي بالعماد سليمان له صلة بالموقف أيضاً من المؤسسة العسكرية التي تحتاج إلى دعم حقيقي. وأنا لا أفهم سعي البعض إلى خلق جيش له من خلال قوى الأمن الداخلي وتعزيزها على حساب الجيش. فكيف الحال والجيش يظهر كفاءة وقوة في مواجهة ما يتعرض له من اختبارات. ويبدو صفير مسروراً وهو يتحدث أمام زواره عن الجيش «الذي يقاتل ويظل موحداً، وعن الجنود الذين يصابون في المعارك ويعالجون ثم يطالبون قيادتهم بإعادتهم إلى ساحة المعركة رغم كل الصعوبات القائمة».
وإذا كانت هواجس صفير متنوعة، فهو لن يطلق موقفاً حاسماً، ويبقى عليه هو الآخر، لأنه لا أحد يملك إجابة عن موقفه إذا توافق الأميركيون مع فرنسا والفاتيكان على رئيس أو على آلية لانتخاب رئيس، وطلبوا من صفير السير بها، علماً بأن البعض يعتقد أن الأخير يخشى أيضاً انقساماً مسيحياً كبيراً يصل إلى الكنيسة نفسها. وهو يخاف أيضاً من الفراغ إذا لم يتم التوصل إلى اتفاق جامع على رئيس من خارج فريقي المعارضة والموالاة. لكن الأكيد أن صفير لن يتورط في إعلان دعمه لأي مرشح، كما لن يتورط في لعبة الأسماء من جديد، رغم أن في المعارضة من ينتظر تعرّض صفير لحملة ود وضغط من جانب فريق الأكثرية الذي يريد أن يفتح معركة النصف زائداً واحداً مبكراً، وهو ما سوف يفتح الباب أمام المعارضة لكي تقرر من جانبها خطوة قد تكون هي الأخرى مخالفة للدستور.
وحده الرئيس لحود يجلس في قصر بعبدا منتظراً خطوات الفريقين، وكل من يزوره يخرج بعبارتين: إما التوافق أو ألجأ إلى ما أراه مناسباً لمصلحة البلاد. لكنني لن أُسلم القصر إلى فريق يغتصب السلطة الآن.