strong> مهى زراقط
فجأة تتحوّل جملة «بين الواقع والمرتجى»، بعد تغيير بسيط في بعض الحروف، إلى جملة جنسية بحتة تثير ضحك الشابين في مكتب العمل. يتوقف أحدهما فجأة عن الضحك، ويلتفت إلى مكتب زميلته ليتأكد أنها لم تسمع ما قالاه، ويعتذر عندما يكتشف أنها سمعته.
ــ لماذا لا تريدني أن أسمع؟ تسأل الزميلة.
ـــــ لأنه عيب أن تقال هذه التعابير في حضور النساء، يجيب.
ينتفض زميله العشريني، «لماذا عيب؟ أين العيب في الموضوع؟ أنا حرّ في قول ما أريده وأمام الجميع».
كان يمكن أن يمتدّ هذا الحديث ليثير نقاشاً أعمق في تحديد مفهوم «العيب» والتعابير التي يجوز قولها وترديدها أمام النساء والرجال على حدّ سواء. لكن المسار الذي اتخذه النقاش حوّله مجدداً إلى مناسبة لترديد المزيد من التعابير والمفردات النابية. وبدا أن العيب هو في السؤال عن الأمر، بعد أن تحوّلت الشتائم والكلمات النابية، أو الجمل ذات الإيحاءات الجنسية «الممعّنة» وفق اللغة الدارجة، إلى مفردات طبيعية في لغة اللبنانيين اليومية.
يتكرّر الموقف أعلاه يومياً وإن بصيغ مختلفة، وهو لا يقتصر على مكان دون آخر، لكنه غالباً ما يتوقف عند اعتذار المتكلّم من زميلته في المكان أو من السيدة التي قد تكون موجودة «لا تواخذينا»، «بالإذن منك»... وعلى الطريقة اللبنانية قد يعمد أحدهم بعد ترديده المفردات النابية إلى الاعتذار عن الكلمة الوحيدة غير النابية في جملته. وليس جديداً أن النساء صرن يتفوقن أحياناً على الرجال في ترديد هذه المفردات، وهنّ في هذه الحالة غير مجبرات على الاعتذار من ما دام «العيب» يتلخّص في عدم ترديدها من الرجال أمام جنسهن فقط لا غير!

أول مرة

ولأن «العيب» يغري باقتحامه، كان السؤال عن سبب انتشار هذه المفردات، الشتائم، على ألسنة غالبية اللبنانيين. واللافت أن الجميع يتذكّر «المرة الأولى» التي شتم فيها، الأمر الذي يعني أن الشاتم يعرف أنه يتجاوز، في ما قاله، محطة ما في حياته.
يتذكر حسن أنه كان في العاشرة حين شتم أول مرّة «سبيت له أمه». سبب تذكره لهذه الحادثة «أني شعرت كثيراً بالذنب بعد الذي قلته». هذا الشعور لا يراوده اليوم، وهو الذي لا تغيب الشتائم عن لسانه حتى في إطار رغبته في التعبير عن إعجابه بأمر ما «... أختها شو حلوة». لكنه يحرص على عدم الشتم أمام والدته التي تغضب كثيراً عندما تسمعه. ونادر كان في السابعة من عمره، سمع أحد شبان قريته يشتم وهو يلعب «الفوتبول» فعاد إلى البيت وقال ما سمعه أمام والده، «لم يضربني، لكنه سألني هل تعرف معنى ما قلته؟» وعندما أجبته، لا، قال لي «لا تردد كلاماً لا
تفهمه».
رشا كانت في التاسعة، رددت كلمة اعتادت سماعها من شقيقها الكبير، وعندما سمعتها أمها صرخت بها مؤنبة. ورنا كانت في الرابعة عشرة من عمرها «كاد أبي يغيب عن الوعي عندما سمعني أقول لأختي «كلي ...». ورغم أن هذه الشتيمة «مهذبة» في قاموس الشتائم اللبنانية فإنها كانت بداية الطريق «أخذ لساني على شتائم أقسى تعلمتها من الشارع، لكني لا اشتم إلا عندما أعصّب فعلاً». أما وائل فيعرّف الشتائم بداية بأنها «الكلمات التي يعلمك إياها أهلك صغيراً ويصفقون لك عندما تقولها، وما إن تكبر قليلاً حتى يعاقبوك على ترديدها».

رفاق السوء

يحمّل الشباب مسؤولية تعلّمهم الشتائم للأصدقاء والمحيط الذي يوجدون فيه «هناك أماكن تفرض عليك لغة معينة. لكل مكان مفرداته»، تقول رنا، بدليل أنها عندما انتقلت من مدينة إلى مدينة «نظف لساني كثيراً، ولم أعد إلى ترديد الشتائم إلا عندما عدت إلى بيروت».
يحاول وائل أن يفهم سبب انهمار الشتائم من لسانه: «عندما كنت صغيراً كنت أحبّ مرافقة من نسميهم «الزعران» وتقليدهم، فكنت أردّد ما يرددونه» لكنه يلفت إلى أنه لم يحب يوماً «تلطيش» الفتيات: «لا أعرف لماذا، لكني كنت ولا أزال أرآه أمراً مشيناً»، علماً أن لا شقيقات لوائل «لذلك يمزح معي أصدقائي بشتم أختي وسؤالي عن الأماكن التي تعمل فيها».
هذا النوع من «المزاح» مقبول، ويمكنه أن يكوّن مادة دسمة لسهرة طويلة يقضيها الشباب في الضحك مع تخيّل مواقف جنسية مثيرة لهم، «لكني تشاجرت مرة مع أحدهم لأنه شتم أختي، فقد كان واضحاً أن قصده إهانتي».
ويرفض نضال القول إن الشتيمة تعني قلة تهذيب، أو تعكس رغبة في إهانة الآخر، «هي لغة» يقول مستفيضاً في الدفاع عنها: «أوقات كلمة (يا أستاذ) تكون مسبة. الأمر يتعلق بمضمون الحديث وإطاره». فبالنسبة له تحوّلت الشتيمة إلى محط كلام ينتقل به من فكرة إلى أخرى «عندما ارغب في تغيير الموضوع أقول... أختها، وأنتقل إلى حديث آخر».
كذلك تحولت الشتائم إلى وسيلة من وسائل التسلية، بعد أن دخلت في مفردات الشباب اليومية، هم يتفننون في اختراعها، كأن يقول أحدهم: «... أخت مفرق ضيعتك» أو «... الداية اللي سحبت راسك»، أو «... اللي شافك وانبسط».
وغالباً ما تكون هذه الشتائم موجهة ضد المرأة، على قاعدة المثل العربي الشهير «لا بغيت تغمه ناده باسم أمه»، أو الشتيمة المصرية الأشهر «ابن مرا». أما في لبنان، فيتفنّن الشتامون في صوغ شتائم تتناول المرأة والدين (أو الله)، وغالباً ما نسمع جملة طويلة لا معنى لغوياً لها لكنها تجمع الله والحريم والرب وشقيقات الحريم...

تحريك الجمود

تتدرّج الدكتورة رجاء مكي في تعريفها للشتيمة، فهي «من حيث المبدأ، عنف لفظي ونوع من السلوك العدواني تجاه الآخر». لكنها تمثّل أحياناً «سلوكاً تفريجياً نقوم به أمام الآخر، فنسقط عليه مشاعرنا وما نفكر به، ورغم ذلك يبقى سلوكاً عنفياً».
أما عن سبب انتشار ظاهرة الشتم، فترى مكي أنها انعكاس لتغيير تشهده مجتمعاتنا. وتحاول أن تشرح هذه الظاهرة بالقول: «نحن نعيش في جوّ يميل إلى التطوّر، الانفتاح، التقرّب من الآخر. هناك من يعمد إلى إزالة الحواجز والدخول إلى عالم الآخر الخاص من خلال شتمه. الشتيمة هنا لها وظيفة اجتماعية قد تكون مقبولة في بعض الأماكن، لكنها تبقى اعتداء على مساحة الآخر الشخصية».
تشرح أكثر: «المتديّنون مثلاً في محاولة لحاقهم بالتغييرات العلمية والاجتماعية يأخذون منها ما يرون أنه يتناسب مــــــــــع مبادئهم وقيمهم. الأمر نفسه بالنسبة للراغبين بالتحرّر، هم من خلال ترك السائد «المتعصّب»، قد يختارون الشتيمة في محاولة لتحريك الجمود. التحريك مطلوب لكنّه عندما يتخذ هذا الوجه يكون مبنياً على قاعدة خاطئة لعدة أسباب، منها أن الشتّام يرى الآخر سلعة، شيئاً، وينظر إلى الحوار معه من منطلق أنه هو من يحرّكه ويقوده وإن تظاهر بأنه يتحبب إليه».
وهناك تفسير آخر لخلفية الشتائم، وهي أن قائلها قد يكون راغباً في «التعويض اللفظي عما يرغبه». والدليل أن معظم الشتائم تتناول ما هو محرّم «الدين، الجنس، المرأة...، أي أن الشاتم يكسر لفظياً المعتقد معتقداً أنه بات من السهل الوصول إليه والنيل منه من خلال تحقيره وتسخيفه».
وتوافق مكي على ملاحظة كيف تذكر من التقيناهم المرة الأولى التي شتموا فيها بأنها «تمثّل فعلاً محطة، لأنها تحدّ للقيمة الاجتماعية وفيها نوع من المواجهة مع الذات. هم يريدون امتهان القيم، تحدّي السلطة الوالدية، ويكون التحرّر الأول كلامياً». الشتيمة في هذا الإطار تكون «اجتيازاً لعالم الأوهام، أو العالم الذي لا
نعرفه».
لكن الملاحظ أن لغة الشتائم لم تعد مقتصرة على فئات معينة (أولاد الشارع كما تعودنا) بل هي منتشرة بكثرة اليوم في المجتمعات المسماة «مثقفة» أو «نخبوية»، وهي مجتمعات لا تعاني قيوداً جنسية «تماماً، لأن الجنس ابتذل عندهم. بالنسبة إلى العمال العاديين أو الطبقات الفقيرة الجنس محرّم، وبالنسبة إلى الأغنياء فهو مبتذل».
وفيما تؤكد مكي أن الشتم أمر غير محبّذ، فإنها ترفض تصنيف الناس بين خلوقين أو غير خلوقين. أو أن من يشتم هو وحده الذي يعاني مشاكل نفسية «هناك أشخاص لا يشتمون ربما لأنهم أكثر تعرّضاً للقمع». حالياً «الشتيمة تفلت من هذا التصنيف، لأنه سلوك تفريجي».
برأيها «المطلوب هو التصالح مع الذات، هناك من يعتقد أن هذا الأمر يتم من خلال الشتيمة، لكنها برأيي سلوك تعويضي ناتج من عدم صبر، عدم اتزان، عدم قدرة على امتصاص المشاكل وفهمها، بالإضافة إلى أنها عنف ضمني نحو الآخر».
يبقى أن نذكّر بأن لكلّ شيء في الحياة ثمنه، وثمن «الاجتماعية» هو كبت قسم من الغرائز وإنكاره... لكن يبدو أن معظم المكتسبات التي حققتها الحضارة الإنسانية بدأت تداس، وليس تحوّل الشتائم إلى لغة يومية إلا مثالاً على هذا الأمر.

الشتيمة... والعقاب

يعترف نضال، الشهير بشتائمه، بأنه يمارس «عادة سيئة لا أكثر ولا أقلّ». أما وائل فيصف سلوكه، عندما يشتم، بـ»السوقي» لذلك يحاول منذ أكثر من شهر ضبط انفعالاته والانتباه إلى حديثه «انتبهت أني بين كل كلمة وكلمة أردّد شتيمة وهذا يقدّم صورة خاطئة عني لذلك أحاول التغيير». حسن لا يستطيع أن يغيّر سلوكه «لأن لا طريقة بها أعبر فيها عن غضبي خصوصاً خلال قيادة السيارة».
واللافت أن غالبية من التقيناهم ترفض اعتماد المعيار الأخلاقي في شرح سلوكهم، ويذهب أحدهم إلى القول إن الأخلاق تردّ إلى الدين «وأنا أرفض الدين أصلاً»...
فماذا يقول إذا عرف أن القانون اللبناني يعاقب الشاتمين؟
تشرح المادة 209 من قانون العقوبات وسائل النشر، وتصنّفها وفق الآتي:
1ـــــ الأعمال والحركات إذا حصلت في محل عام أو مكان مباح للجمهور أو معرض للأنظار وشاهدها بسبب خطأ الفاعل من لا دخل له بالفعل.
2ـــــ الكلام والصراخ سواء جُهِر بهما أو نقلا بالوسائل الآلية بحيث يسمعهما في كلتا الحالين من لا دخل لـــــــه بالفعل
3ـــــ الكتابة والرسوم والصور اليدوية والشمسية والأفلام والشارات والتصاوير على اختلافها إذا عرضت في محل عام أو مكان مباح للجمهور أو معرّض للأنظار أو بيعت أو عرضت للبيع أو وزعت على شخص أو أكثر
وتنص المادة 531 على الآتي: «يعاقب على التعرض للآداب العامة بإحدى الوسائل المذكورة في الفقرة الأولى من المادة 209 بالحبس من شهر إلى سنة».
والمادة 532 عدلت الغرامة بموجب القانون الرقم 239 على الوجه الآتي: «يعاقب على التعرض للأخلاق العامة بإحدى الوسائل المذكورة في الفقرتين الثانية والثالثة من المادة 209 بالحبس من شهر إلى سنة وبالغرامة من عشرين ألفاً إلى مائتي ألف ليرة».
وتعاقب المادة 473 كل «من جدّف على اسم الله علانية بالحبس من شهر إلى سنة».