غسان سعود
لماذا كان المطلوب الرقم اثنان يحمل أوراقاً فلسطينية مزورة وكيف عبرت «الطرطيرة» حاجز سعدون؟

ليست المرة الأولى التي «يُقتل فيها» شهاب القدور الملقب بـ«أبي هريرة»، ولكنها الوحيدة التي ينتظر فيها ذووه جثته لدفنها. فيما الانتظار الأكبر هو لمعرفة ماذا حدث وكيف ولماذا، ومن وراء ذلك ومن مع وماذا بعد؟
المعروف أن «أبا هريرة» هو الرجل الثاني في تنظيم «فتح الإسلام»، على طريقة أن أيمن الظواهري هو الرجل الثاني في «القاعدة». والذي تم تداوله مدى أكثر من شهرين أنه كان القائد الميداني المفترض لعمليات هذا التنظيم في مخيم نهر البارد. ثم بدأت الروايات: هرب سباحة من المخيم وذهب الى عين الحلوة، ثم عاد الى طرابلس حيث قُتل «صدفة» بعدما وقع عن دراجة نارية تعرف باسم «طرطيرة» انزلقت في أحد شوارع أبي سمرا.
بكثير من البراءة تسأل صباح القدور شقيقة «ظواهري لبنان» عن سبب عدم تسليم العائلة جثته حتى الآن، على رغم تأكيد القوى الأمنية أنها تعود له، خارقة بذلك الصمت الصارخ المحيط بملف مقتله، وهو «صمت» لا يزال يدور على شكل تساؤلات واستغراب وتشكيك، لدى المتابعين لهذه القضية والعارفين بالشؤون الأمنية، وخصوصاً حول آخر تحركات «أبي هريرة» حتى تحوّله جثة هامدة.
إنه «الكذب غير المحترف»، هكذا يصف مصدر أمني الروايات الأخيرة عن القدور، بادئاً من «رواية» هروبه من مخيم البارد، ومشدداً على طلب وضع المزدوجين حول كلمة رواية، لأنه وإن كان ليس صعباً السباحة لمدة ست ساعات، فإن من المستحيل، في رأيه، خروج طير من المخيم في ظل الحصار المحكم للجيش، ووجود قناصة بحريين يترصدون منذ اليوم الثالث للمعركة كل ما ومن يتحرك على طول الشاطئ الشمالي.
أما «الرواية» الأغرب، بحسب المصدر نفسه، «والتي بدأوا بتسريبها بعدما وجدوا أن الأولى صعبة على البلع»، فهي القول إنه لم يكن أصلاً في البارد «وهذا أقل احترافاً مما سبق، لأنه أولاً ينسف روايتهم عن هروبه سباحة، وثانياً يشير الى خلل كبير في عمل الجهة التي خطّطت لمداهمة مبنى عبدو، حيث كان يفترض أن تجمع، أقله، تفاصيل أكيدة عن مكان وجود قادة هذا التنظيم. وثالثاً يضرب كل صدقيتهم خلال المعارك عن أبي هريرة وقيادته الميدانية والأخبار المتوالية عن مقتله وإصابته». ويتابع سائلاً: «إذا سلمنا جدلاً بأنه هرب سباحة، أو أنه لم يكن موجوداً أصلاً في البارد، فأين من هم المفترض فيهم جمع المعلومات عن امتدادات وعلاقات وتحركات أفراد وقادة تنظيم اتُّهم بعمليتي تفجير ويشتبه به في اغتيال وزير ونائب، وهدّد السلم الأهلي بقتال مرير مع الجيش؟ وكيف «يكزدر» الرجل الثاني في هذا التنظيم باطمئنان بين المناطق، وبماذا نبرر للعسكريين الذين يخوضون معركة حياة أو موت على الخطوط الأمامية للجبهة المشتعلة بنار القناصة، فيما أحد قادة عدوهم طليق يستمتع بنسيم الشاطئ الممتد من صيدا الى طرابلس؟».
أما الحبكة التي يصفها بـ«المضحكة المبكية» فهي، في رأيه، ظروف مقتل القدور وطريقته، معتبراً ان الصدفة تحتمل عنصراً أو اثنين أو ثلاثة على أبعد تقدير «أما أن يكون شخص ما قائداً عسكرياً ميدانياً في تنظيم يعتبر الاستشهاد أقصى الأماني، وقاتل في العراق ضد جيش القوة العظمى في العالم، ويخوض تنظيمه حرباً شرسة ضد جيش توزع شهداؤه على مساحة الوطن، وهو مطلوب من كل الأجهزة الأمنية في البلد، وبكل بساطة يركب «طرطيرة» غير قانونية ومعه أوراق ثبوتية فلسطينية مزورة ـــــ لماذا مثلاً لم يستحصل على هوية أو جنسية مطلوب صاحبها أقل من الفلسطينيين حالياً ـــــ ويتوجه مباشرة الى حاجز لقوى الأمن الداخلي من دون استطلاع، ويمر. ثم تأتي الصدفة لتقتله. إن هذا أمر يستدعي أكثر من علامة استفهام».
وما يعزز هذه التساؤلات، وجود روايتين حول مقتل القدور، قدّم الأولى وزير الإعلام غازي العريضي وقوى الأمن الداخلي، وتقول إن «أبا هريرة وزميله جمال الدين ملص فوجئا بحاجز تفتيش لقوى الأمن في ساحة سعدون في أبي سمرا، فحاولا الهرب منه. إلا أن عنصراً من أفراد الدورية ركل الدراجة فسقطا أرضاً وهمَّ ملص بالفرار بينما سقط مسدس القدور عن وسطه فأمسكه وراح يطلق النار على أفراد الدورية، ثم هرب نحو شارع تبين أنه مقفل فحاول تسلق حائط لكن عناصر أمنية تمكنت من قتله، بينما لاحق آخرون ملص وأوقفوه».
والرواية الثانية تأتي على ألسنة شهود عيان في محيط ساحة سعدون، أجمعوا على أن ملص كان يقود الدراجة، وخلفه القدور، آتياً من جنوب المدينة في اتجاه الساحة حيث كانت قوى الأمن تقيم حاجزاً للتفتيش يتألف من حوالى 50 عنصراً «يمكن للقادمين في اتجاههم أن يلمحوهم من مسافة مئة متر تقريباً، ويستطيع من يخشى شيئاً الانحراف بسهولة يميناً أو شمالاً لتجنبهم». ويؤكد شاهد أن ملص «الذي شاهد الحاجز من بعيد تابع تقدمه بشكل طبيعي، وأن العناصر الأمنية أشارت له بالمرور. فتابع تقدمه، لكن وعلى بعد قرابة 30 متراً من الحاجز الجنوبي انعطف ملص ليتجه صعوداً، وكانت الأرض مبللة بالمياه المبتذلة فتزحلقت الدراجة ووقع راكباها أرضاً وسقط مسدس ملص. وفيما كان الضابط المسؤول عن المجموعة يصرخ «أوعا، الحمد لله على سلامتكم»، صرخ أحد الشبان الذين يجتمعون هناك للعب «البليارد» بصوت عال: «انتبهوا، انتبهوا يحمل فرداً». عندها ركض القدور صعوداً ولحقه ثلاثة عناصر، وبعد التفافه حول المبنى الذي سقطت الدراجة قبالته عبر طريقاً فرعية ضيقة ومرأباً للسيارات له مدخلان، خارقاً الحاجز الذي مر به سابقاً فعاجله عنصر أمني، وهو شقيق عسكري استشهد في البارد، بأكثر من عشر رصاصات أصابته في فخذه وكتفه وصدره. فسقط في حديقة صغيرة تفصل بين طريقين رئيسيين». أما ملص الذي لم يحاول سحب مسدسه من تحت السيارة حيث وقع، ولم يطلق أية رصاصة، فقد بدا بحسب الشهود «هادئاً جداً ولم يحاول الهرب».
وتثير هذه الرواية أسئلة عدة لدى ضابط متقاعد، منها: «ما مغزى حاجز لا يدقق بهوية سائقي الدراجات النارية في منطقة شهدت أكثر من معركة دموية، وكيف يثير مسلح بمسدس واحد هلع 50 عنصراً أمنياً، وكيف شخص مثل «أبي هريرة» يتنقل من دون كشّاف يسبقه، وبلا الأسلحة المناسبة لمواجهة أي مفاجأة، وعلى دراجة صغيرة لا تحمل أوراقاً قانونيّة، ومستخدماً أوراقاً ثبوتية للاجئ فلسطيني فيما المعروف أن تفتيش الفلسطينيين مضاعف هذه الأيام؟».
كذلك يثير موضوع ملص الذي «صدف» أنه كان مقرباً، أيضاً، من «أبي جندل» الذي قتل أيضاً على بعد مئات الأمتار فقط من ساحة سعدون، الكثير من الأسئلة لدى متابعين لهذه القضية، وخصوصاً هدوءه أثناء مطاردة زميله وعدم محاولته تضليل العناصر أو شغلهم لتأمين هروبه، إضافة إلى مخالفته عادة المتشددين بالتحفظ عند التحقيق معهم، ومسارعته إلى إبلاغ المحققين أن القتيل غير الملتحي هو «أبو هريرة».
وبعيداً من الأسئلة، لا تزال صباح تنتظر الجثة لدفنها، وقد تحصل على ما تريده عاجلاً أو آجلاً، ولكن هل تنتهي قضية «أبي هريرة» عند حدود دفنه كما يتخيل البعض، ويأمل آخرون؟




بورتريه


الرجل الذي مات كثيراً

في بلدة مشمش العكارية التي ينحدر منها شهاب القدور، يتوزع عشرات الشبان على المقابر ليلاً ونهاراً ليتأكدوا من عدم قيام عائلة «فقيد فتح الإسلام» بدفنه سراً. لكن محاولة تغييبه عن المقابر، لا تُلغي سيرته كلما اجتمع اثنان في البلدة، وخصوصاً أن الذي يراد دفنه بصمت خرج إلى هذه الدنيا على يد القابلة القانونية «أم أحمد»، وهو يبكي بصوت عال. وتروي إحدى قريباته أنه كان نموذجاً للطفل المشاغب بدءاً من سن الثالثة، وكان يسرق الثياب والأحذية، ويتسلق الأشجار رامياً أترابه بثمارها. وبسرعة نجح بتجميع «عصابة» أولاد معظمهم أكبر منه سناً. وبعدما انتقلت عائلته إلى طرابلس، حيث عمل والده حمالاً ثم مراقباً في سوق الخضر، كان يهرب من مدرسته ليلهو مع بعض الفتيان قرب نهر أبو علي، أو يجمع الخردة ليبيعها ببضع ليرات. وذكرت أنه كان مقرباً جداً من والدته التي تروي بدورها أنه عاد في أحد الأيام إلى المنزل «مهجوساً» بأسئلة كثيرة عن «التوحيديين» وعن رأيها بهم.
عام 1976، وكان في الرابعة عشرة من عمره، دهمت القوات السورية تحصينات لحركة التوحيد في محيط منزل عائلته، وكان يلهو قرب نهر أبو علي حين مرَّ به «توحيديون» وسألوه عن أحد الأنفاق، فسارع أحد أصدقائه إلى إرشادهم. غير أن شهاب المراهق عاد إلى «حي الغرباء» مجاهراً بدوره «البطولي» في إنقاذ الإسلاميين، فما كان من المخابرات السورية إلا أن اعتقلته، ووضعته مع المعتقلين من التوحيد ومتشددين سوريين، اهتموا بتنشئته الدينية، كما يروي أحد أصدقائه السابقين في الحي.
وبعد ست سنوات، أفرج عنه، وعاد، كما تقول شقيقته صباح، «رجلاً ناضجاً، يدرس كل كلمة قبل قولها، يفكر بعمق في خياراته قبل اتخاذ أي قرار، ويأخذ من الناس معظم ما يعرفونه قبل إخبارهم بأي جديد». وبعد بضعة أشهر، بدأت تتضح أكثر معالم تدينه واتصالاته بالجماعات المتشددة في سوريا ولبنان، وخصوصاً في أبي سمرا وعين الحلوة. وكثيراً ما قصده في مقهى يقع بين حي الغرباء ومنطقة الزاهرية رجال ملتحون، يجتمعون معه لدقائق معدودة ثم يغادرون. ويقول أحد أقربائه، إنه حين يعيد اليوم رسم الصور التي في رأسه، يفهم أن كثيراً من زبائنه في مطعم الفلافل الذي افتتحه في أبي سمرا، إنما كانوا يبادلون شهاب المعلومات، ويأخذون منه التعليمات. وذكر أن المخابرات السورية استدعته بعد بضعة أشهر على إطلاقه، وحققت معه في علاقته بالإخوان المسلمين في سوريا».
عام 1988 تزوج «أبو هريرة» من فلسطينية ينشط معظم أفراد عائلتها وسط المجموعات السلفيّة الجهاديّة، وفتح «نتّافة» لبيع الدجاج في منطقة القبة. ويصفه أحد جيرانه، آنذاك، بأنه «كان مزاجياً جداً، مع مواظبة على الصلاة في أوقاتها، ونجح في أقل من ثلاثة أشهر، بالتحول إلى زعيم للحيّ لا يجرؤ أحد على نقاشه لشدة اطلاعه وسرعة بديهته. ورغم النفوذ السوري القوي في تلك المنطقة، كان يجاهر، بكرهه للسوريين». ويضيف أحد معارفه أنه كان أقرب إلى سلفية «الهداية والإحسان»، الأمر الذي زاد الشبهة حوله بالمشاركة في تخطيط وتنفيذ اغتيال رئيس «جمعية المشاريع الإسلامية» نزار الحلبي عام 1995، فدهمت القوى الأمنية منزل أهله في الغرباء و«نتّافته» في القبة، ما اضطره للانتقال إلى مخيم عين الحلوة حيث انتمى إلى «عصبة الأنصار» التي يتزعّمها «أبو محجن»، وعمل في منطقة التعمير بائعاً للقهوة، وتملك منزلاً من طابقين. ونسج علاقات إسلامية واسعة، علماً بأن لحيته، بحسب شقيقته، ليست طويلة، ويرتدي ثياباً عادية، ولا تدل تصرفاته على تشدده الديني.
ومع بدء المواجهة الأميركية ـــ العراقية عام 2003، ترأس القدور، بحسب مراجع فلسطينية، قرابة 30 شاباً انتقلوا إلى العراق لـ«الجهاد ضد الغزاة»، ليعود بعد سنتين أكثر تكتماً وغموضاً، وكان يتنقل باستمرار بين صيدا وطرابلس. وتميز في عين الحلوة بتوسطه الدائم بين الفصائل الفلسطينية السلفية لتخفيف التوتر بين عناصرها.
أما «أبو هريرة» الأب، فيقول أكبر أبنائه الخمسة، وهو في الثالثة عشرة من عمره، إنه لم يظهر يوماً أسلحة في المنزل، وكان يهتم كثيراً بتدريسهم واللعب معهم وإهدائهم أحدث التقنيات التكنولوجية. علماً بأن أولاده وزوجته كانوا معه في مخيم البارد عند بدء المواجهات، لكن ثلاثة منهم ظهروا فجأة في منزل أهله في «حي الغرباء»، وأخيراً انضم إليهم الرابع، وبقي أصغرهم، وعمره تسعة أشهر، مع الوالدة التي، بحسب مصادر أمنية، كانت تضغط بشكل كبير على نساء المقاتلين لإبقائهن وأولادهن في المخيم لمنع دخول الجيش وحسم المعركة.
وكان «أبو هريرة» قد ظهر عبر الإعلام مرتين منذ بدء المواجهات في البارد، الأولى عبر اتصال هاتفي بقناة الجزيرة دحض فيه الشائعات عن اغتياله، متعهداً البقاء وعائلته في المخيم حتى «الاستشهاد». والثانية عند بث الرسالة المسجلة لقائد تنظيم «فتح الإسلام» شاكر العبسي، وكان هو يقف خلفه.
وملف القدور القضائي، يتضمن تهمتين: الأولى تتعلق باغتيال الحلبي، والثانية بتأسيسه مع مسؤول حركة «فتح» في لبنان سلطان أبو العينين «عصابة قتل» بين عامي 1993 و1999. وثمة مذكرة توقيف غيابية صادرة في حقه بتاريخ 8/7/2000، ومذكرة إلقاء قبض بتاريخ 8/3/2001.
ويشار إلى أن «مقتله» الأخير لم يكن الأول، إذ كانت القوى الأمنية اللبنانية قد أبلغت عائلته، بعد أحداث الضنيّة، أنه قتل في المواجهات، فيما كانت اتصالاته مستمرة ببعض أفراد العائلة. كما تردد نبأ مقتله أكثر من مرة في معارك الشمال الأخيرة، بل إن نازحين من المخيم أكدوا رؤيتهم لجثته في أحد المساجد. لذلك، ما زال بين أقربائه من يعتقد أن مقتله «الأخير» قد لا يكون الأخير.
أما في منزل الرجل الذي «قُتِل» أكثر من مرة، حيث تغيب عناصر الحماية الأمنية، ويحاذر الأهل الكلام مع الإعلام، فهناك من هو مقتنع بأن «أبو هريرة» كان يتجه إلى منزل ذويه، رغم المخاطر الأمنية «لمشاهدة أبنائه والاطمئنان إليهم»، فيما صباح تجزم قائلة: «خلصت القصة، دفّعوه الثمن، والله يساعد أولاده».