strong> غسان سعود
حملت صورة جمال ومشت. خرجت إلى أزقة المصيطبة خارقة الأحياء بقدميها المنهكتين بجسد أتعبته الأمراض. كانت تمشي بسرعة استصعبت مواكبتها ابنتها التي تصغرها بثلاثين عاماً. تمشي كأنها اليوم ستلتقي حبيبها، فتشد الصورة أكثر على صدرها وتمضي. تتحول الدموع في عينيها إلى بريق، ترد السلام على من «يمرحبها» في الطريق من دون أن يحيد نظرها عن ساحة جبران خليل جبران قرب مبنى الإسكوا في وسط بيروت. تجلس أم جمال على مقعد خشبي صغير قرب الخيمة التي مضى على اعتصام أهالي المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية فيها قرابة سنتين وخمسة أشهر.
عنوان اللقاء هذه المرة هو يوم المفقودين العالمي. يوم يثير بإحدى السيدات حنيناً إلى دفء بيروت، تردد بصوتها السبعيني الخافت: «ما في حدا.. لا تندهي ما في حدا.. عتم وطريق وطير طاير علهدا.. بابن مسكر والعشب غطى الدراج.. شو قولكن صاروا صدى». كلمات تحرك مشاعر المحيطين بالنسوة، فيشعرون ببعض مما يشعرن به. وقبل أن يغرق الحاضرون بالحزن والدموع، تتحرك إحدى السيدات بخفة مؤكدة أن «ضو القنديل» لم يطفأ بعد، وأولادهن سيبصرون نوره قريباً، وتستنجد السيدة بغازي عاد رئيس لجنة سوليد لينقذها برفع معنويات زميلاتها.
هكذا يستعيد المشهد هدوءه قبل وصول بضعة سوريين حاملين أعلام بلدهم وبضع لافتات تكشف عن فحوى وجودهم. فهنا واحدة تطالب بإنقاذ سجناء الرأي والضمير لدى النظام السوري، وهنا أخرى تستهجن إحجام السلطات السورية عن فتح سجونها أمام متطوعي الصليب الأحمر الدولي. وشارك في هذا التحرك الأول لمعارضين سوريين من لبنان بضعة شبان سوريين معظمهم أكراد يعيشون منذ بضع سنوات في لبنان، وأسرَّ بعض هؤلاء بأنهم «يتجنبون الذهاب إلى منازلهم في سوريا خوفاً من انتقام النظام السوري». ودعا عدد من الناشطين السوريين في مجال حقوق الإنسان باسم اللجنة السورية لإنقاذ حياة سجناء الرأي والضمير في السجون السورية إلى «التضامن مع أهالي المعتقلين اللبنانيين في سجون النظام السوري»، مشيرين إلى «تقدير الشعب السوري مرارة الظلم الذي لحق باللبنانيين، مشيدين برجالات سوريا في السجن الكبير والصغير الذين يقفون أعظم المواقف متحدّين التصفية الجسدية والخوف والرعب والخطر الذي تعيشه عائلاتهم».
وأعلنت اللجنة السورية إضراباً عن الطعام ليوم واحد في خطوة تضامنية تهدف إلى التأكيد على مطالبة المجتمع الدولي بالضغط على السلطات السورية كي تسمح بدخول اللجنة الدولية للصليب الأحمر إلى السجون والمعتقلات السورية، والتحرك الفوري لإنقاذ المصابين بأمراض مزمنة والسعي من أجل رفع منع السفر عنهم لتلقي العلاج.
بدوره رحب عاد بالنائب السابق والمعتقل السابق مأمون الحمصي، موضحاً أن وجود اللجنة التي هي في صلب المعارضة السورية داخل خيمة الأهالي في وسط بيروت لا علاقة له أبداً في السياسة أو في الشؤون الداخلية السوريّة، مشيراً إلى أن خيمة الأهالي مفتوحة أمام كل من يريد التضامن معهم ولا يستطيعون إقفالها بوجه أهالٍ سوريين أو من غير جنسية يعانون ما يعانيه الأهالي اللبنانيون. وجدد عاد مطالبته المجتمع الدولي بتشكيل لجنة تحقيق دوليّة للنظر في جرائم التعذيب والاعتقال الاعتباطي والإخفاء القسري على يد المخابرات السورية التي تعد بحسبه جرائم متمادية ضد القانون. وأكد عاد لـ«الأخبار» أن التراشق الإعلامي والمزايدات بين مختلف الأطراف السياسية لا تجدي المعتقلين ولا أهاليهم نفعاً، والمطلوب بعدما فشلت كل المحاولات السلمية مع السوريين أن تضغط القوى السياسية على الحكومة اللبنانية للتقدم بطلب خطي إلى الأمم المتحدة لتأليف اللجنة التي سبق الكلام عنها.
وفيما كان عاد يؤكد استمرار اعتصام الأهالي، آملاً تضافر جهود كل المعنيين لإحقاق الحق مهما طال الزمن، كانت الأمهات يكررن الروايات عن رحلاتهن إلى سوريا، واستغلالهن مادياً من بعض الضباط السوريين، وتمسكهن برسائل صغيرة وتأكيدات نقلها إليهن من سبق أبناءهن بالخروج. فيما كانت أم جمال شبه مكسورة ليوم آخر لم تكتمل الفرحة فيه، ولم يقدم جديداً، وهي اختارت الاختلاء بنفسها داخل الخيمة مرددة: «ما في حدا لا تندهي ما في حدا.. مع مين بدك ترجعي بعتم الطريق.. لا شاعلة نارن ولا عندك رفيق.. يا قلب آخرتا معك تعبتني.. شو بك دخلك صرت هيك وشو بني...».