أنسي الحاج
  • ملاعب الذاكرة

  • الجمال الكامل أقلّ إثارة من الجمال الناقص. الأول يُحبط، في حين أنه كلّما تدنّى جمال امرأة ازداد حظّ غرائز الرجل في الانطلاق.
    على أن لا يكون النقص في العينين أو الفم. وإن كان لا بدّ من مبالغة فيهما، فحبّذا لو تكون في تعميق السكينة في العينين، وفي سعة الفم وكبر الشفتين، حيث السعة تعني الشراهة، والكبرُ الشَبَق.
    الحواس أبواب. واللعبة الجديّة تُمارَس في الذاكرة. خلفيّات الذاكرة يستنهضها جمال منقوص، جاذبيّته تأخذ وتعطي، جمال في متناول القطف، جذوره في باطن المخيّلة لا في العقل.
    الخيال يهوى ما يستطيع أن يُكمله، أن يتابع تجميله، أن يُعيد إنتاجه، أن يَقْتله ويحييه. الجمال الكامل قاتل كامل.


  • الأبناء والبنون

  • كانت النظرة أن الرجال يسيطرون على الأحداث. في نظر الشعوب، شخص مثل ستالين، ماو تسي تونغ، تشرشل، ديغول، عبد الناصر، كان بطريركاً توراتيّاً يسوس الرعيّة القاصر. ربّما لم يعد كملوك الماضي يستمدّ السلطة من اللّه لكنّه بات ينسبها إلى القَدَر.
    بعض لبنانيّي اليوم يشعرون بالحنين إلى عهود إميل إده وبشارة الخوري وكميل شمعون عندما كان رئيس الجمهوريّة ساحراً. الثقة بالأب ولو مكروهاً أو مُتمرَّداً عليه. كنيدي الشاب قتلته الرصاصة بقدر ما قتله صباه الذي لم يوفّر له عباءة جَلال العمر. جاذبيّة شبابه جَعَلَتْه أكثر استنزالاً للصواعق. الشعوب أطفال والأطفال يعتقدون أن السلطان هو الكائن العجيب الذي لا يُشبههم. هو الذي لا يحبّونه كما يعشقون بل يحبّونه كما يَهابون. الهالة المخيفة. السلطان ليس بشراً.
    هذا كان في ما مضى. قبل «التطبيع» الأممي. قبل السقوط. والسقوط كان سقوط السلاطين ولكنْ أيضاً سقوط الشعوب من سياج أوهامها.
    كان العرب يعتقدون أن إسرائيل هي الأنثى وأن العرب هم الذَكَر، فإذا الأنثى تَغْلب الذَكَر. هذا هو الجرح الأبلغ لمأساة 1967. جرح يتواصل نَزْفاً وتشظّياً من العروبة إلى الأسلمة، على دروب متشابهة من العنف والإرهاب والانتحار وإهداء الذات إلى المتلاعبين بها.
    يقول الماروني البسيط متحسّراً إن البطريرك كان إذا قال كلمة «رَجَف الآخرون قَصْبة». لم يدرك الماروني الطيّب أن من أهمّ منجزات البطريرك صفير، إضافة إلى ميزاته المعروفة، إدخاله البطريركيّة في الزمن الحديث، حيث البطريرك هو الصَديق الصِدّيق لا الصَنَم المخيف، وحيث اللغة لغة العقل والقلب لا العصا، ولو كانت إلهيّة.
    والماروني الطيّب البسيط يختصر مأساة جميع العرب المتمثّلة في تيه الشعوب الباحثة في وعيها عن آباء ترفضهم في لاوعيها ـــــ أو العكس ـــــ وحين تجدهم، إمّا تحنّطهم بالعبادة أو تُفشّلهم بالجهل.


  • هنا وهناك

  • تتبادل الحياة والموت العشقَ كما يتبادله الذَكَر والأنثى. ويتبادلان الحَذَر نفسه وسوء الفهم ورغبة التملّك.
    يتبادلان أيضاً إحساس الملل. عندها، تنسى الحياةُ أحداً فيطفو على أديمها كما يطفو الطحلب على البحر، وينساه الموت فيَطعن في السنّ كما يتراكم الغبار حيث تهمله المكنسة.
    ولكن لا ننسَ دور حبّ الذات، و«الانحباب»، في تشبيث المرء بالحياة. حبُّ ذات من نوع الأنانية السفّاحة، المحصّنة بنرجسيّة فَطِنة تستقطب كالمغناطيس وتحمي كالفولاذ. قليلاً ما نجد فصلاً بين حبّ الذات و«الانحباب»، كثيراً ما يَستجلب الأولُ الثاني. أشهر الأمثلة هم نجوم الفنّ، حيث تصل النرجسيّة إلى أحجام خياليّة، وكذلك عبادة الجماهير لهؤلاء النجوم، تغذّي نرجسيتهم وتغتذي منها. هنا، يُحتمل الجوّ لأن الجاذبيّة قائمة على موهبة أو جَمال. الأسطوري في النجم جزء من أسطورة رحيمة. أمر لا نجده في عبادة الجماهير للطغاة والزعماء، حيث الأسطوري جذوره في الاستباحة والتخويف وحيث الجاذبيّة معظم الأحيان صنْع الدعاية والسلطة، وحاليّاً صنْع شركات الترويج.
    ... وفي هالة الحياة أشعّة من الموت، وفي نداء الموت جاذبيّاتٌ أشبه بنسائم القيلولة.


  • الفَتْك بالعدم

  • لم تثمر المسيحيّة فنيّاً وأدبيّاً كما أثمرت في الغرب. أفاد منها أكثر ممّا أفاد مَصْدَرُها. جعلت الغربيّين يستبطنون قسوتهم ويحيلونها فتحاً حضاريّاً. تلقيح الماديّة الهمجيّة بالروحانيّة التصاعديّة أنتج حالة وسطى، لها وعي العقل الفاتك بنواحي العدم، وتشوّق الروح المصقولة إلى انعتاق أصبح متاحاً لها، عوض الدم، بالموسيقى والشعر والفلسفة والتصوير والنحت.
    طار الغرب بأجنحة المسيحيّة إلى ما وراء سمائها.


  • فوق الموج

  • لا يَبْذل أقصاه في ما يَكْتب، كما لا يمضي إلى النهاية في ما يُحبّ. المراودة ثم الانكفاء. ملامسة فَقْش الموج على غرار الطيور.
    هذا الصنف من الكُتّاب يحاذر الغوص الحاسم يقيناً منه أن مثل هذا البذل قد يُحقّق له غرضاً أدبيّاً مشبِعاً لكنّه سيحمله إلى حتفه في اللحظة نفسها.
    الفراشة لا تُعمّر لكنّ نَسَقَها يُعمّر. ويُحكى أن الفراشة من أوائل كائنات الخليقة.


  • عابرات

  • بين الكتاب ومؤلّفه ما بين اليوم والبارحة: شراكة الندم أعمق من رباط التناسل.
    ***

    يشيخ الرجلُ وعيناه تهفوان إلى أمّه، فتنهض أمّه عائدة على حنينه إلى صباها، وينطوي الموت عائداً إلى فراغ يديه.
    ***

    اسكتْ وهلمَّ إلى المحبوب! العدوّ يستدعي العدوّ...

    معــــــادلات

    كما لا يَعرف الشعرُ أنّه ليس بحاجة إلى انتماء
    ولا إلى الحياة، فهو الحياة
    لا يَعرف جمالكِ أنّه ليس بحاجة إلى خيال العاشق أو كلماته
    ولا يُصدّق، حين ينطوي النهار، أنّه كان هو النهار
    قبل أن يصير الآن هو الليل،
    لأنّ الطبائع صُنعتْ هكذا لأجل التعاقُب
    ولأن الإنسان يَذْبل من دون شَغَف
    والشَغَف يَعمى حين يَرى
    كما يَعمى النورُ حين يُشرق.