جان عزيز
يروي دبلوماسي ماروني سابق، أنه ذات يوم انتهت ولايته كممثل لبلاده في عاصمة أوروبية شديدة الشغف بلبنان ومسيحييه. ولما كان في إحدى زياراته الوداعية لهذه المناسبة، استقبله أحد مسؤولي تلك الدولة الأوروبية، وراح يسائله عن وضع لبنان والمسيحيين فيه. لم تكن الحرب اللبنانية قد وقعت بعد، لكن نذائرها بدت مقروءة في أكثر من تطور وموقف. فجال المسؤول الأوروبي في كلامه على مخاطر المرحلة وتحدياتها، ناصحاً وملاحظاً ومقترحاً. حتى انتهت مدة الزيارة الرسمية فوقف الضيف مودّعاً، سائلاً عن أي وصية أخيرة، ففكّر المسؤول الأوروبية لحظات قبل أن يجيب: بلى، ثمّة وصيّة أخيرة أنقلها باسمي إلى الزعماء المسيحيين في لبنان، فيلحرصوا على أن تظل المعارضة في بلادهم مسيحية.
لم يتوقف الدبلوماسي السابق كثيراً عند الكلام. بين بروتوكولية المناسبة ومجاملة الحديث، مرّت الوصية من دون كبير تحليل. لكن الأيام القليلة التالية، التي ترافقت مع العوارض الأولى لبدء الأحداث في النصف الأول من السبعينات، أعادت إلى الكلام الأوروبي معناه في الواقع اللبناني.
ذلك أنه منذ قيام دولة لبنان الكبير، ثم لبنان الاستقلال مع الجمهورية الثانية سنة 1943، كانت لنظام المارونية السياسية سمات تعريف عدة. لكن أهمها ربما، وأقلها ظهوراً وعلانية، هو أن هذا النظام تميّز بموالاة مسيحية، وبمعارضة مسيحية كذلك.
ولقد تباينت الآراء حول هذا الواقع الغريب. البعض عزاه إلى الواقع الثقافي ـــــ السوسيولوجي لبيروت، في النصف الأول من القرن الماضي. يوم كانت النخب السياسية تكاد تقتصر مصادرها على ثنائية «اليسوعية» و«الإنجيلية». والبعض الآخر يعزوها إلى عوامل سياسية أكثر آنيّة، مثل انبثاق لبنان الكيان في ظل الانتداب الفرنسي، مع ما رافق هذه الأجواء من رعاية انتدابية للطبقة السياسية المسيحية على حساب الطبقات الأخرى المتحركة يومها في أجواء سياسية أخرى مناوئة للفرنسيين. وبعض ثالث عزا تلك الجدلية إلى تباين أساسي في الفكر المسيحي يومئذ، فهناك «المسيحيون الميثاقيون» الذين نسجوا صيغة الاستقلال فصاروا سلطة وموالاة، بعدما كانوا معارضة قبلها. وهناك «المسيحيون الكيانيون»، الذين تحفّظوا على فلسفة الميثاق الداخلية والعربية، فصاروا معارضة الجمهورية الثانية، بعدما كانوا سلطة الجمهورية الأولى.
لكن أيّاً من التفسيرات لم يذهب مذهب الدهاء السياسي الذي أوحت به وصية السياسي الأوروبي، لناحية أن يوزّع المسيحيون، في ما بينهم، كل أدوار النظام الديموقراطي، فيكونون السلطة وضدها، الموالاة والمعارضة. عندئذ «يقفلون» اللعبة على كل ما عداهم، ويحتكرون السوق، ويضمنون «مسيحيّة» التناوب أيّاً كانت الموازين السياسية والبرلمانية في النظام.
وفي الترجمة العملية يتّضح شيء من ذلك. بدليل أن ثنائيات المارونية السياسية طيلة ثلاثة عقود، وأيّاً كانت تفسيراتها وتبريراتها، يظل الثابت أنها أبقت نظام المارونية السياسية حيّاً كل تلك الفترة، على عوراته وشوائبه ونواقصه التي ساهمت في انفجار الكيان سنة 1975. فبين الكتلتين الدستورية والوطنية، وبين الشمعونية والشهابية، وبين الحلف والنهج، ظل المسيحيون في السلطة، وهو ما كان عاملاً من عوامل انهيارها.
وفي الترجمة العملية لهذا الواقع، يتّضح أيضاً أن بداية «الأزمة المسيحية» مع النظام اللبناني، تزامنت مع بداية تحوّل معارضة هذا النظام، إلى قيادة غير مسيحية، وتحديداً مع كمال جنبلاط. ولأن الجماعات اللبنانية ليست من الوسائط الديموقراطية التي تقبل تداول السلطة، ولأن النظام لم يكن قائماً على ضمان حقوق الجماعات ولا على ميثاقية التوافق، تجمّعت البدايتان، بداية الأزمة المسيحية في السلطة، وبداية الحركة غير المسيحية في المعارضة، لتبلورا سقوط البناء برمّته، سلطة ومعارضة، مسيحيين وغير مسيحيين.
بعد ثلاثين عاماً على الحرب، عاد المسيحيون فجأة إلى الحياة السياسية، فيما لبنان في نقاهة، وهم في حال إبلال من موات سياسي فرضه عليهم الوجود السوري، وتواطؤ بعض اللبنانيين معه. عاد المسيحيون إلى الشأن العام والوطني، وهم يحملون في ذاكرتهم التاريخية ربما، صورة توزّعهم في نظام الجمهورية الثانية، على الموالاة والمعارضة. هكذا وفي شكل آلي وتلقائي، ونتيجة عوامل عدة طبعاً، وجدوا أنفسهم، قادةً ومزاجاً عامّاً، في معسكرين: واحد ضمن السلطة وفيه أقلية مسيحية، وواحد في المعارضة وفيه أكثريتهم. وبين الاثنين لبثت مرجعيتهم الروحية الأولى، في موقع ثالث خارج الموقعين، لا بل متقلّب بينهما، حسب الموقف واللحظة.
هذا فيما الجماعات اللبنانية الأخرى تعيش حالات مخالفة، من التوحّد الأكثري الراجح، قيادةً سياسية ومرجعية روحية ومزاجاً شعبياً. فالثلاثة معاً لدى السنّة والدروز، في موقع الموالاة. والثلاثة معاً لدى الشيعة، كانوا في الموالاة معاً، وانتقلوا إلى المعارضة معاً.
عشيّة استحقاقات مسيحية مهمة، منها نداء بكركي الثامن يوم الأربعاء المقبل، وسفر سيدها إلى روما حيث «القضية اللبنانية» إنجيل خامس للصلاة في الحاضرة الرسولية، وعشيّة الاستحقاق المقارب للموقع المسيحي الأول في النظام، والحديث عن إمكان عقد لقاء مسيحي موسّع، أو ضرورة ذلك، قد تكون العبرة الأولى من تاريخ لبنان واستقراره، أن تحسم بكركي والمسيحيون، قادةً ومزاجاً قواعدياً، السؤال الآتي: هل يشعرون فعلاً بأنهم في السلطة؟ أم يشعرون فعلاً بأنهم في الموقع المعارض؟ سؤال قد يكون مصيرياً في الأسابيع المقبلة، كي لا يعيش المسيحيون وهْم سلطة لا تشبههم، ولا حلم معارضة لا توصلهم. سؤال على بكركي حسمه أولاً.