إبراهيم الأمين
يصل جان كلود كوسران الى بيروت قريباً لتوجيه دعوات الى نحو عشرين شخصية لبنانية، حزبية وسياسية ومدنية، للمشاركة في لقاء حواري يعقد بعد نحو أسبوعين في العاصمة الفرنسية من أجل تبادل الأفكار حول آلية لحل الأزمة اللبنانية. كوسران الذي كان يعد لكي يكون اللقاء محورياً كما ناقش الأمر مع الوزير برنار كوشنير، يتصرف الآن من باب تثبيت الحضور، حتى كوشنير نفسه شعر بأنه أمام مولود جاء قبل أوانه وليس هناك من يريد مساعدته على إبقائه على قيد الحياة. كان واضحاً له ولكوسران وآخرين في باريس، أن الولايات المتحدة أجهزت عليه سريعاً. ولمزيد من التدقيق يقول المعنيون بهذه المبادرة «إننا أمام تحالف موضوعي مفاجئ بين سوريا والولايات المتحدة. الطرفان لا يريدان حلاً الآن. بل إنهما يريدان ربط الأمور بجدول أعمال مختلف».
ل زيارة الرئيس فؤاد السنيورة الأخيرة الى باريس كانت الامور تسير وفق منحى مختلف بعض الشيء. لم يكن هناك تحول جدي أو جوهري في السياسة الفرنسية، ولكن برزت إشارات إلى نية العهد الجديد هناك فتح صفحة جديدة في الاتصالات مع اللبنانيين. وإذا كان هناك من يعتقد بأن كوشنير أخذ راحته في تفسير تعليمات الرئيس نيكولا ساركوزي له بالانفتاح على الجميع، فإن كوشنير ذهب بعيداً في رسم تصورات لحلول من النوع الذي يخلق مشكلات مع الولايات المتحدة والآخرين، وهو وجد نفسه خلال أسابيع قليلة مطوقاً بالضغوط الاميركية، ويجري التندر في العاصمة الفرنسية بأن كوشنير كان يحتاج الى من يذكره بأن كوندوليزا رايس هي وزيرة خارجية العالم. وانه حتى إشعار آخر، فإن وزراء الغرب القديم أو الجديد يعملون رؤساء مكاتب فرعية تحت إدارة المعلمة التي عادت ووضعت مع ساركوزي في حضور كوشنير الخطوط العريضة للسياسة العامة في المنطقة. حتى إنه سمع كلاماً مباشراً عما هو مدروس في الشرق الأوسط لا يحتمل تعديلات من طرف واحد، وأن واشنطن لا تهتم لهوية من يبادر بل تريد أن يدرك الجميع أن قوانين اللعبة التي تضعها، هي المعتمدة حتى إشعار آخر.
حتى إنه قبل وصول السنيورة الى العاصمة الفرنسية كانت الادارة الاميركية قد رتبت له الكثير من الأمور، وهو أمر ساعد فيه أيضاً عدد من رجالات الرئيس جاك شيراك المنتشرين في إدارة الدولة الفرنسية، وفي وقت قصير أزيحت الصورة غير الجدية التي كانت مرسومة للرئيس السنيورة، مثل القول إنه موظف وليس صاحب قرار وإنه لا يلتزم بما يعد به أو إنه يبالغ في تقدير قوته. وعملت الوزيرة الاميركية على حسم الأمر من زاوية أخرى، وخصوصاً بعد الاحداث التي جرت أخيراً في غزة، إذ قالت ما كرره المسؤولون الفرنسيون لاحقاً أن «على العالم الحر ان يقف الآن مع رجلين هما محمود عباس وفؤاد السنيورة اللذين يواجهان التطرف نيابة عن الجميع». وتعليمة رايس لم تفتح فقط أبواب الإليزيه بل جميع أبواب قادة الدول الحليفة للولايات المتحدة في المنطقة، حتى بدا ان السنيورة يملك من النفوذ ما كان يملكه الرئيس الشهيد رفيق الحريري، ما يوفر له هذه اللقاءات السريعة والرفيعة المستوى مع كل من يرغب في الاجتماع به، وخصوصاً أن المهمة الملحة أمام الغرب الآن ليست فقط منع سقوط بقية السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية بل احتمال قيام حكومة ثانية في لبنان تؤدي الى انقسام، لا على المستوى السياسي فقط بل على المستوى الإداري أيضاً.
ويكشف مطلعون في هذا السياق أن هناك ضغوطاً قوية من الاميركيين ومن عواصم عربية لمنع توسيع دائرة الاتصال بين العاصمة الفرنسية وقيادات لبنانية تعدّها الولايات المتحدة شريكة في مشروع «تقويض حكومة السنيورة». وحتى لا يبقى الكلام في إطاره العام بادرت الإدارة الاميركية الى قرارها المتعلق بمنع شخصيات لبنانية من زيارة الولايات المتحدة بحجة أنهم شركاء في نشاط هدفه تقويض الحكومة الحالية، وهو إجراء لا أحد يعرف سببه القانوني، وهو ما يحوّل الإجراء الى سؤال الى «ديموقراطيي وقانونيي وحقوقيي 14 آذار من المسترئسين والمستوزرين عن رأيهم في قرار الولايات المتحدة معاقبة من يعارض أي حكومة في بلاده».
ويبدو أن الأمر يتجه صوب تصعيد كحال ملف حركات المقاومة التي تصنفها الولايات المتحدة بأنها منظمات إرهابية، وتحاول هي أن تفرض الإجراء نفسه على كل الدول الأوروبية، وقد تلقى كاتبو التقارير من سياسيي وإعلاميي واقتصاديي 14 آذار وعداً أميركياً بأن عواصم الحضارة العالمية لن تستقبل بعد الآن أي شخصية معارضة لهم في لبنان.
وقال مصدر مطلع إن الضغوط الآن تتجه لاحتواء خطوة كان الرئيس ساركوزي في مناخ الإقدام عليها، وهي توجبه دعوة الى الرئيس نبيه بري لزيارة فرنسا، باعتباره رئيساً للمجلس النيابي، وخصوصاً أنه لم يرد سلباً ولا إيجاباً على طلب النائب سعد الحريري مقابلته في الإليزيه، وقبل استقبال السنيورة من ناحية الشكل باعتباره رئيساً للحكومة الشرعية برأي الادارة الفرنسية. وثمة كلام أميركي يشارك فيه آخرون بأن بري يعطل المؤسسة الاشتراعية وبالتالي فإن استقباله يجب أن يكون مشروطاً بأمرين: الأول إعلان رفضه قيام حكومة ثانية والثاني المبادرة الى خطوة تؤكد عدم تعطيل المجلس النيابي، وهو الأمر الذي يعتقد الغرب أنه إذا تحقق يمكن أن يوفر الغطاء الإضافي الذي تحتاج إليه حكومة السنيورة في الاشهر القليلة المقبلة.
وفي هذا السياق بدت الادارة الفرنسية أمام استحقاق إقفال ملف المبادرة بما يحفظ ماء الوجه، وهو الأمر الذي ترجم بشرح جانبي يقول إن اللقاء غير مهم وسوف يظهر ذلك من خلال جدول الأعمال وقلة الاهتمام السياسي والإعلامي به. وهو ما دفع بالرئيس السنيورة نفسه الى امتداح المبادرة ولو مع دعوة الى خفض سقف التوقعات، علماً بأنه كان هو قد تولى باسم فريق 14 آذار إبلاغ الفرنسيين أن الجميع يرغب في أن تكون المبادرة الفعلية بيد العرب ولا سيما مصر والسعودية. وهذا ما يسمح بإنتاج لقاء ينتهي الى ما وصفته الزميلة «السفير» سابقاً بأنه «سياحة سياسية». وبالتالي فإن التغيير الجاري الحديث عنه في التوجهات الفرنسية سوف يظل محصوراً في بعض العناوين الشكلية الى أن يحسم الوضع على مستوى القرار الاميركي خلال الشهور الثلاثة المقبلة، لكن باريس تريد استعادة التواصل مع الفرقاء الآخرين بصورة جدية، ولو تطلب الامر تسريع إجراءات السفير برنار إيمييه الذي يظهر قدرة فائقة على انتزاع هوامش المناورة حتى ليبدو في بعض الأحيان كأنه غير مهتم بأن تغييراً قد حصل في إدارة بلاده.