غسان سعود
«حلم بشير» حقّقه حبيقة وحاربه «قواتيون» ويطالب به «الحكيم» لـ«خدمة القضية»

يستصعب لبنانيون كثر الاقتناع بأن خلافاً يمكن أن ينشب بين «القوات اللبنانية» والمؤسسة اللبنانية للإرسال. بل إن ثقة البعض بقواتيّة الـ lbc وصلت إلى حدّ القول إن الخلافات التي خرجت إلى العلن أخيراً بين الجانبين «مجرد تبادل أدوار لاستعادة الجمهور المتسرب»، أو «تهديدات وهمية لإعادة النظر بتوزيع العائدات المالية».
لكن المعطيات الواقعية تشير إلى أن الخلافات المسيحية ـــــ المسيحية حطت رحالها في هذه المؤسسة أخيراً، وأن الطلاق وقع بين رئيس مجلس إدارة المؤسسة، بيار الضاهر ورئيس الهيئة التنفيذية لـ«القوات»، سمير جعجع. إذ يرفض الأول إصرار الثاني على اعتبارها واحدة من مؤسسات «القوات اللبنانية» لا تجوز «شخصنة مواردها» أو استخدامها في غير «خدمة القضية». إضافة إلى أن بين مؤسسيها من يعيد فضل إنشائها إلى أموال «الصندوق الوطني» التي كانت تجبى من سكان المناطق المسيحية، وهي بالتالي ملك «المجتمع المسيحي»، لا يفترض وضعها في جيب شخص أو حزب.
وفي المقابل هناك من يرى أن المؤسسة «قواتية» الفكرة والتأسيس والإطلاق والرعاية، ولا يمكن التخلي عنها في مرحلة النضوج. ويعودون إلى بداية القصة مطلع الثمانينيات، حين دخل بشير الجميل إحدى قاعات بيت الكتائب المركزي، كما يروي رئيس حزب الكتائب كريم بقرادوني. وأسرَّ للموجودين بتكليف جوزف توتنجي وعدد من الأخصائيين شراء معدات لإنشاء تلفزيون خاص بـ«القوات اللبنانية». ومن دون انتظار رد أو تعليق، أوعز إلى المعنيين إعداد الدراسات لانطلاق العمل. وعندما تبين أن تلفزيون لبنان يشغل 11 قناة بث من أصل 12 معطاة للبنان، سارع الوزير شارل رزق الذي كان يشغل يومها منصب المدير العام لوزارة الإعلام إلى إحضار بعض آلات البث للقناة 12، قاطعاً الطريق على إشغال «القوات» لآخر مساحات «الهواء» المتبقية. فنشأ خلاف بينه وبين بشير انتهى إلى رضوخه، وبالتالي مضي «القوات» قدماً في مشروعها الإعلامي الخاص الأول من نوعه في لبنان والعالم العربي.
وفي العام نفسه، حوّلت «القوات» دار المعلمين في جونية، إلى مقر لتلفزيون الحزب. تحت الإشراف المباشر لـ«الباش»، واستكملت الاستعدادات التقنية والبشرية. لكن الاجتياح الإسرائيلي صيف 1982 سبق موعد البث، وتلاه انتخاب بشير رئيساً للجمهورية فأوقف العمل بالمشروع مستفيداً من التلفزيون الرسمي في إيصال رسالة «القوات». وهكذا أغلق الملف، لكن ليس لوقت طويل، إذ اجتمع بقرادوني وصولانج الجميّل وفادي افرام في الذكرى الأولى لاغتيال بشير، وبحثوا في قدرتهم على استنهاض «حلمه»، وتبين أن الصعوبات المالية الكبيرة تحول دون تحقيق ذلك.

حبيقة

في 9 أيار 1985 وصل إيلي حبيقة إلى رئاسة الهيئة التنفيذية في القوات، وأخذ، وفق إيلي أسود النائب السابق لقائد «القوات»، على عاتقه إطلاق التلفزيون بعد توافقه مع بقرادوني وسمير جعجع على تسجيل شركة تحمل اسم «المؤسسة اللبنانية للإرسال»، توزع أسهمها على سامي توما ورئيف البستاني وبيار الضاهر. وكان هذا الإجراء بسبب عدم وجود حزب أو جمعية تحمل اسم «القوات اللبنانيّة» في تلك المرحلة، علماً بأن هؤلاء تنازلوا في مستند جانبي عن كامل ملكيتهم. ولم يكن التنازل لـ«القوات» ولا لجعجع أو حبيقة، بل لكريم بقرادوني بصفته «رئيس الدائرة الإعلامية في القوات». ولم يحل خلاف جعجع وحبيقة دون توافقهما على اختيار الضاهر المقرب من الأول مديراً عاماً للتلفزيون، مستندين بذلك إلى رصيده الأكاديمي وخبرته الواسعة في هذا المجال.

ورغم تذمر قيادة حزب الكتائب «المتخوفة من منبر إعلامي للقوات يعزز استقلاليتها، والمستغربة حاجة القواتيين لتلفزيون في وقت يتبوأ فيه الكتائبي أمين الجميل الرئاسة محكماً القبضة المسيحية على تلفزيون لبنان»، تابع حبيقة اهتمامه بالمشروع غير آبه بالكتاب القانوني الذي وجهه رئيس مجلس إدارة تلفزيون لبنان ميشال سماحة إلى قيادة «القوات» يبلغها فيه مخالفتها القانون، وارتكابها فعلاً تلاحق عليه جزائياً.
واللافت أنه، إضافة إلى معارضة حزب الكتائب، ساد القلق والتذمر صفوف القواتيين الذين تزعّم بعض قيادييهم الحاليين، بحسب بقرادوني، معارضة عنيفة ضد الـ lbc، مشيرين إلى أن الأمر تبذير للأموال، في وقت تحتاج فيه مجلة «المسيرة» و«إذاعة لبنان الحر» إلى دعم الصندوق الوطني في نهاية كل عام. فردَّ حبيقة على هؤلاء، بحسب ريما فرح مستشارته الإعلامية السابقة، بالدفاع الشرس عن المشروع «الضروري لمواكبة القضية وشرحها للرأي العام»، وطلب من بول عريس رئيس الصندوق الوطني صرف كل المستلزمات المالية التي يحتاج إليها بقرادوني لتجهيز هذه المؤسسة. وشكلت الشعبة الخامسة في «القوات» و«إذاعة لبنان الحر» الرافدين البشريين الأساسيين لها.
وفي الذكرى الثالثة لانتخاب بشير رئيساً للجمهورية (22 آب 2005)، أطلت «اللبنانية للإرسال» على الفضاء اللبناني. وتحدث يومها حبيقة، محاطاً بصولانج الجميل وبقرادوني والضاهر، وفي غياب جعجع، فقال: «نريد مؤسسة جديدة من بنيان القوات اللبنانية (...) سنعمل كي تكون مستقلة توصل الرسالة إلى كل مكان من دون جمرك، لا يتابعها القواتيون ويستمعون إليها ويشاهدونها وحدهم. لكن تسمع كلمة القوات لكل الناس على الأراضي اللبنانية (...)».
ويقول أحد المتابعين للمؤسسة في تلك المرحلة إن بقرادوني والضاهر كانا يشددان في اجتماعات التحرير على عرض مختلف وجهات النظر بحيادية. والخرق الأول في هذا السياق، كان مقابلة مع المرجع السيد محمد حسين فضل الله، تبعها بعد بضعة أيام لقاء مع رئيس منظمة التحرير الفلسطينية الراحل ياسر عرفات.

جعجع

لاحقاً، لم تتأثر القناة بالصراع القواتي ـــــ القواتي، بسبب تفاهم جعجع وحبيقة على تحييد المؤسسات المدنية أثناء الانتفاضات. فيما استفاد الضاهر وجعجع، لاحقاً، من علاقتهما المميزة، لتعزيز التنسيق بين «اللبنانية للإرسال» التي يترأسها الضاهر و«القوات اللبنانية» الموجودة بحكم الأمر الواقع، ومن دون أي ترخيص قانوني. وكانت الأموال التي تجنيها المؤسسة تصرف على تجهيزها بآلات أكثر تطوراً، مستعينة حتى عام 1992 بالصندوق الوطني لتغطية نفقاتها، وفقاً لبقرادوني. فيما كان النقاش شبه يومي بين من يريد أن تكون المؤسسة قواتية حصراً، ومن يريدها تلفزيوناً لبنانياً يولي قضايا المسيحيين عناية خاصة. وكثيراً ما تلقى الضاهر بين عامي 1986 و1994 عشرات الاتصالات في يوم واحد من معترضين على استضافة شخصية تحرج «القوات» وحلفاءها.
وكان «الحكيم» والمحيطون به يتحدثون عن lbc بصفتها واحدة من إنجازاته التي تعكس بعد رؤيته للأمور. ويقول هؤلاء إن جعجع تحمل على عاتقه عصر نفقات «القوات» ليلبي متطلبات المؤسسة الإعلامية. وفي اجتماعه الأسبوعي مع إعلاميي القوات كل أربعاء، كان يشدد على «خلق إعلام حر وملتزم دون أن يعني هذا الأمر غباءً إعلامياً، يلمِّع الصورة، ويختلق أحداثاً». وفيما كانت الحرب تستعر، بحسب أحد المقربين من جعجع، كان الأخير ينشغل باختيار الأسماء الأكفأ لإرسالها إلى الخارج لمتابعة دورات إعلامية واكتساب خبرات إضافية.

الترخيص

وحتى آذار عام 1994، يؤكد بقرادوني أنه لم تكن ثمة مشكلة بين «اللبنانية للإرسال» و«القوات». ومع اعتقال «الحكيم»، وضعت السلطة الأمنية يدها على مختلف مؤسسات «القوات»، لكن «بيارو»، كما يسمي «القواتيون» الضاهر، عرف كيف يحمي الـ LBC بواسطة الوزير السابق سليمان فرنجية. إلا أن المشكلة بدأت إثر طلب حكومة الرئيس الراحل رفيق الحريري الأولى من الوسائل الإعلامية الحصول على تراخيص. فأخذ «بيارو» على عاتقه تحويل «اللبنانية للإرسال» من قناة حزبية إلى شركة مساهمة، تملكت مجموعة الضاهر 49% من حصصها مقابل 51% لعدد كبير من المستثمرين. علماً بأن القانون الرقم 382/94 لم يثبّت أية قناة أو شركة سبق وجودها إقراره، ويقول أحد أعضاء المجلس الوطني للإعلام إن واضعي ذلك القانون ركزوا على منع إعطاء التراخيص للأحزاب السياسية وفرضوا على المؤسسات الإعلامية توفير تنوع طائفي وسط طالبي الترخيص.
ويؤكد المحامي عادل بطرس المتخصص في النزاعات الإعلامية ـــــ القضائية أن القانون المذكور كان جازماً وواضحاً في إلغاء أية حقوق مكتسبة أو سابقة له. وهكذا اعتبرت «اللبنانية للارسال» التي يفترض بالضاهر أن يتنازل عن ملكيتها لمصلحة بقرادوني ـــــ كما ورد سابقاً ـــــ غير موجودة. ورُخص لشركة جديدة خضعت للقانون الجديد. فبدأت تظهر معالم خلاف بين المقربين من جعجع والضاهر بقيت ناره تحت الرماد. فيما أخذ التلفزيون يتوسع ويتمدد مستفيداً من استثنائية اعلامية ـــــ تجارية يتميز بها الضاهر.

الخلاف

بعد خروج الحكيم من السجن، وحصوله على ترخيص لحزب جديد يحمل اسم «القوات اللبنانية»، سعى إلى استعادة مؤسسات «حزب القوات اللبنانية» المرخص عام 1991. وفي اعتقاده، كما في اعتقاد لبنانيين كثر، أن «اللبنانية للإرسال» واحدة منها. لكن الضاهر رفض هذا الأمر. وتستغرب مصادر «قواتية» هذا الرفض، مشيرة إلى أن رأس مال المؤسسة الأساسي يعود إلى «القوات»، ولا يجوز تحويل الأشخاص الذين أداروا استثمار رأس المال إلى مالكين له. بل تذهب هذه المصادر إلى حد القول إن الـ LBC في حقيقتها «وجه حضاري يعكس رؤية جعجع السياسية وانفتاحه وبعد نظره»، وإنها «لا تستطيع التنكر لمجتمعها، والقوات أساسه». ومع إقرارها بكفاءة الضاهر، تعدّد لائحة أسماء إعلامية ـــــ قواتية طويلة، للقول إن حصر المؤسسة بشخص «أمر معيب لا يجوز التسليم به».
وفي المقابل، يكتفي مؤيدو الضاهر بإشهار فوزه في دعاوى قضائية تتعلق بملكية الشركة رفعها ضده سياسيون حلفاء لسوريا في عز وجودها في لبنان. ويقولون إن عودة جعجع بأمور التلفزيون إلى ما كانت عليه عام 1994 أمر مستحيل قضائياً، لأن الضاهر سدد خلال السنوات الماضية لحزبي القوات والكتائب ما افترضه ديناً على مؤسسته وحقوقاً لهما يفترض احترامها والوقوف عندها.

قدامى القوات

ويبدو أن الأمر لن يقتصر على هذه الأطراف، إذ يدرس بعض أقطاب «قدامى القوات» طريقة دخول هذا المعترك، من باب أن التسوية بين حزب الكتائب والمؤسسة عام 1999 انتهت إلى أن الحزب لا يعدّ الوريث السياسي للرئيس بشير الجميل. فيما كان بشير قد أشرف مباشرة، عشية انتخابه رئيساً للجمهورية، على تعيين فادي افرام قائداً لـ«القوات» وإيلي أسود نائباً له، وبالتالي «فإن قيادة القوات اللبنانية الشرعية تعود لفؤاد أبو ناضر، لا لقادة الانتفاضات المتتالية». وفي هذا السياق، يدعو أحد أصدقاء بشير إلى التأني في قراءة البيان الأخير لمجلس إدارة شركة «أل بي سي». متوقفاً عند قولهم إن الـ «lbc ملك المساهمين الحاليين فيها، ولا علاقة قانونية أو تعاقدية لهذه الشركة، لا من قريب ولا من بعيد، بالجمعية السياسية القوات اللبنانية، المنشأة في 1 تشرين الثاني 2005 (...)»، ليشير إلى أن المشكلة بجزئها الأكبر هي بين lbc و«قوات الـ 2005، التي لا تمت بصلة مادية أو معنوية أو فكرية إلى القوات التي انبعثت منها اللبنانية للإرسال»، بحسب هذا «الصديق».
وسط هذه الأجواء، ينتهي أحد المتابعين لهذه القضية إلى القول إن سياسيين في قوى 14 آذار يتقدمهم النائب السابق فارس سعيد وقياديو «القوات اللبنانية» والحزب التقدمي الاشتراكي ينطلقون في مقاربتهم للملف من إيمانهم بأن النتيجة الإيجابية التي حققها العماد ميشال عون في الانتخابات النيابية قبل سنتين، وخصوصاً في جبل لبنان، إنما تعود بنسبتها الأكبر لانحياز المؤسسة اللبنانية للإرسال له، بتوجيه مباشر من الضاهر «الأمر الذي لم ينسه هؤلاء بعد». كما لم ينسوا عرض القناة وثائقي «المقايضة» بعد أيام قليلة على انتهاء العدوان الإسرائيلي على لبنان، مقدمة بذلك لـ«حزب الله»، ما يرونه دعماً معنوياً في مواجهة هجوم الأكثرية النيابية عليه.
ويضيف هذا المصدر أن الضاهر، بعد قرابة عشرين اجتماعاً مع «الحكيم» لبحث موضوع التلفزيون، انتهى إلى مساءلة نفسه والمحيطين به: «لماذا يفاوض القوات على شيء يملكه ولا شيء يربطها به إلا البعد المعنوي». فيما يسأل أحد زملاء الضاهر عمن يجزم اليوم أو «يتجرأ على القول إن القوات اللبنانية تعبِّر عن المجتمع المسيحي الذي يعود له وحده حق ادعاء ملكية هذه المؤسسة؟».
وبين كل ذلك، يدعو بعض «الحكماء» قيادة جعجع إلى التكيف مع «مزاجية» الضاهر كما فعلت صولانج يوم غابت الـ LBC «حلم زوجها» عن نقل وقائع القداديس في ذكرى اغتياله. وكما عض حزب «الوعد» على جرحه ليلة اغتيال حبيقة، المؤسس الفعلي للـlbc، حيث أبقت المؤسسة على برامجها الغنائية المرحة. وكما فعل أصدقاء بشير في «جبهة الحرية» حين تدافعت وسائل الإعلام لنقل خبر انطلاق حركتهم، فيما اختفى مذياع «اللبنانية للإرسال» وكاميرتها.