راجانا حميّة
في ذكرى «تمّوز الأسود» الأولى، يبحث تلامذة جمعيّة المبرّات الخيرية الإسلاميّة عن أحلامٍ تقيهم دمار ذاك الصيف، وتعيدهم إلى أحضان الطبيعة التي اعتادوها، بعيداً من طائرات الرعب والتهجير والدماء والدموع. إلاّ أنّ أطفال «المبرات» لم يكونوا وحدهم ضحايا «تمّوز»، فقد نالت الجمعيّة نصيبها من الدمار والشتات، وها هي اليوم تلملم ما بقي من آثار العدوان
قبل سنةٍ من اليوم، رسم هاشم طالب تفاصيل صيفٍ دامٍ ومذكّراتٍ سوداء هجّرته من منزله «الكبير» في منطقة حارة حريك، إلى زوايا صغيرة يحتمي فيها من غضب طائرات «الرعب». صوّر ابن السنوات التسع أحلاماً شتّتها الدمار والخوف بين مدرسة الجبل، حيث نزل وعائلته هرباً من القصف، والمنزل الجديد في «الحارة» إلى جانب «الصليب وشجرة الليمون». رسم الخوف في عيون «باقر وبابا وماما»... وأفرد لوجه هادي الزيّات، رفيقه في مؤسّسة الهادي للإعاقة السمعية والبصرية واضطرابات اللغة والتواصل أوراقاً كثيرة وخربشاتٍ تنطق بما عجز به لسانه.
هاشم «الصغير»، وروبينا، وسامي، وعلي وغيرهم من الأطفال الذين حُرموا «لون الحياة» بسبب «الحواجز الصحّية»، وجدوا أنفسهم يفضحون بعفويّتهم حرباً لم توفّر لهم أحداً حتّى «هادي»، في معارض عدّة لعلّ أهمّها المعرض الذي أقاموه مع بداية العام الدراسي تحت عنوان «الحرب بعيون أطفالنا». قد يكون مرّ على ذاك المعرض أيّام كثيرة، وخصوصاً أنّ العام الدراسي قد شارف على النهاية أو انتهى، إلاّ أنّ ثلاثة وثلاثين يوماً من الشتات لم تكن لتخرج من مخيّلة الأطفال بالسهولة التي دخلت فيها طائرات العدوان الأخير. فقد كان الأطفال يحتاجون إلى نشاطاتٍ «مضادّة» لصور حربٍ فرضت نفسها على البراءة. لذلك كان لا بدّ لمؤسّسة الهادي أو جمعية المبرات من إعادة أطفالها من حالة الضياع التي فرضتها الحرب. فبدأت المؤسّسة بمحاربة الحرب عبر حض الأطفال على رسمها، إضافة إلى إقامة عددٍ من الحلقات التربوية والعلاج المسرحي. وفي هذا الإطار، أشارت المرشدة الصحّية والاجتماعيّة في المؤسّسة إلهام اسماعيل إلى «أنّنا عمدنا إلى تدخّل نفسي تربوي للتخفيف من آثار الحرب، وأنشطة متعددة من رسم وألعاب يعبّر من خلالها الطفل عمّا حدث معه خلالها». وقد انقسمت فقرات التعبير الحر بحسب الأعمار، فمن الروضة إلى 12 عاماً يرسم التلميذ ما يشعر به. ولفتت إسماعيل إلى «أنّ هؤلاء التلامذة كانوا يطلبون من المعلّمة أن ترسم لهم على وجوههم صاروخاً أو علم لبنان أو المقاومة أو وردة باللون الأحمر، بعدما كانوا يرسمون فراشة أو قمراً أو شمعة».
وقد عمدت المؤسّسة إلى تغيير النمط مع الفئة العمرية 12 وما فوق، فاستحضرت المسرح العلاجي وأقامت ورشة عمل استمرت مدى 9 جلسات، عبّر خلالها تلامذة «المراهقة» عمّا يثقلهم من خلال الحركات الجسديّة والإيقاع والصوت. إلّا أنّ المسرح لم يمنع البعض من اللجوء إلى الرسم في أوقات الفراغ، لتفريغ ما يعجزون عن الإفصاح عنه بالكلمة.
شيئاً فشيئاً، خرج تلامذة «الهادي» وغيرها من مؤسّسات المبرّات من الحرب. وقد أوضحت مدرّسة الفنون التشكيلية في مؤّسسة الهادي منى عز الدّين «أنّهم كانوا في بادئ الأمر يرسمون تفاصيل الحرب، كأن يصوّروا أجساد أقاربهم والصواريخ والطائرات والأطفال الشهداء، ويبالغوا في بعض الأحيان برسم تلك التفاصيل، وفي استخدام الألوان التي غلب عليها الأسود والرمادي والأحمر».
وفي المرحلة الثانية، رسم التلامذة الحرب أيضاً، ولكن «بدرجةٍ خفيفة»، لأنهم باتوا يحتاجون إلى العودة إلى مواقع الحياة الطبيعية، إلاّ من صورة هادي التي بقيت حاضرة في حصص الرسم. ولفتت عز الدين إلى «أنّ التلامذة أصبحوا بحاجةٍ لأشياء أخرى، وتغيّرت رسوماتهم أو بالأحرى عادت إلى ما كانت عليه قبل حرب تمّوز، فرسموا الطبيعة والأم والعصافير...».
ولم تقتصر حلقات «التفريغ» على الأطفال، إذ طالت أيضاً الطاقم التعليمي من خلال الأنشطة التعبيرية «بالكتابة والكلام» وفسحات الاسترخاء التي تستهدف إخراج ما يجثم في دواخلهم من خوف وإرهاق. ورأى مدير المؤسّسة إسماعيل الزين أنّ الحرب أسهمت في كشف النقاب عن بعض الحالات، ولا سيّما الأطفال المنعزلون، «ما دفعنا إلى التركيز على النوادي والنشاطات الترفيهية لإخراجهم من الحالات المرضيّة».
ولم يكن أطفال «الهادي» وحدهم من تعرّضوا لأهوال «تمّوز الأسود»، فقد طال الدمار والمجازر مؤسّسات جمعيّة المبرّات كلّها، إذ أجهزت إسرائيل على بناها التحتية التربوية والاجتماعية والصحّية. وكان من نتيجة «العدوان على البرّ» خسائر تقارب ثلاثة عشر مليون دولار أميركي. ولفت المدير العام للجمعية محمّد باقر فضل الله إلى «أنّ الخسائر لم تكن شيئاً أمام تشريد الأيتام من مؤسّساتهم في الجنوب وبيروت، إضافة إلى العائلات المستفيدة من رعاية الجمعية المبرات».

إعادة إعمار «مؤسّسات البر»

لا تزال جمعيّة المبرّات تعمل على إعادة بناء ما تهدّم، رغم أنّها أنهت العدد الأكبر منها، ولا سيّما المدارس. وفي «جردةٍ» لما أُنجز خلال العام، أشار فضل الله إلى «أنّ معظم المؤسسات التي دُمرت في مدينة بيروت أُعيد ترميمها خلال شهرين من نهاية العدوان، وسلكت المدارس بشكل طبيعي». أمّا في الجنوب، فكان حجم الدمار مضاعفاً بالنسبة إلى ما حدث في بيروت والبقاع، وقد تأخّرت المدارس عن العام الدراسي المفترض. وأوضح فضل الله «أنّ تأخير العام الدراسي لم يؤثّر على مناهج الطلّاب، وخصوصاً أنّ مدارس المبرّات الأخرى زوّدت مدارس الجنوب بالخطط التعليمية وجميع المستلزمات التي تحتاج إليها». وبالنسبة إلى التبرّعات من أجل إعادة الإعمار، لفت فضل الله إلى أنّ دولة قطر أعادت إعمار مدرستي الإشراق (بنت جبيل) وعيسى ابن مريم ومبرة النبي إبراهيم (الخيام)، كما تلقّت الجمعيّة بيوتاً جاهزة من المملكة العربية السعوديّة لتسهيل استيعاب التلامذة والأيتام. ومن جهة أخرى، تعهّدت دولة الإمارات العربية المتحدة بناء مبرّة الإمام علي في معروب، غير أنّها لم تباشر فيها إلى الآن.
كما أشار فضل الله إلى أنّ وزارة التربية والتعليم العالي قدّمت للجمعيّة مدرستين رسميتين في منطقتي دبّين وحناويه لاستخدامهما إلى حين إعادة بناء المؤسسات الموجودة هناك. كما تمّ تجهيز فندق قديم في منطقة كفرجوز في النبطية وتحويل معهد مهني في جويا كان مخصّصاً للفتيات إلى مبرّة للأيتام. ولفت فضل الله إلى أنّ جمعيّة المبرّات وقّعت مع منظّمة التعاون الإيطالية برنامجاً مشتركاً لإعادة تجهيز مؤسستي الأيتام في معروب والخيام، كما تقدّم المنظّمة من خلال برنامج التعاون تجهيزات لعدد من مؤسّسات الجمعية، إضافة إلى إعداد وتنظيم برامج تدريبية للعاملين في الحقل الاجتماعي والتربوي.