strong>عساف أبو رحال
  • صناعة مستمرة رغم الإهمال والاعتداءات الإسرائيلية المتكررة

  • راشيا الفخار ــ كما اسمها ــ لم تتخلَّ عن صناعة الفخّار، وهي تقع في قضاء حاصبيا. وقد كانت الاعتداءات والمضايقات الإسرائيلية المتكررة منذ عام 1969 حتى عام 1978 تاريخ دخول قوات الطوارئ الدولية، سبباً في هجرة أبنائها. لا يتجاوز عدد المقيمين فيها شتاءً 300 نسمة من أصل ثلاثة آلاف هم تعداد سكانها الأصلي.


    بزهو وكثير من الفخار يتحدث أهالي بلدة راشيا الفخار القديمة في البقاع الغربي عن تاريخها، ويعتزّون بحفاظهم على تراث بلدتهم القديم في صناعة الفخار رغم تسلسل الاعتداءات وامتداد المعاناة والإهمال لعقود طوال، لكن صبرهم وتمسكهم بالجذور كانا أقوى من الاحتلال، يذكرون أن البلدة عرفت كيف تقاوم توطين اليهود على أرضها عام 1978 حين زارها اليهودي وليم روبنسون محاولاً إقامة مستوطنة تحت عنوان «تقديم المساعدات» للأهالي.
    عاد أهالي بلدة راشيا الفخار في العرقوب إلى مزاولة صناعة الفخار المترسخة والمتجذرة في عقول أبنائها حفاظاً منهم على مكانتها، وهي صناعة قديمة قِدَم تاريخ البلدة بحسب شهادة كبار المسنين من أهلها، الذين ما زال بعضهم يتمسك بممارستها بوصفها تراثاً قديماً رغم المعوقات الكثيرة، والاعتداءات الإسرائيلية التي أثّرت سلباً على هذا القطاع منذ ستينيات القرن الماضي.
    أهالي راشيا الذين هُجّروا مرات عدة آخرها في الصيف الماضي، عادوا إلى نشاطهم ليقينهم أن صناعة الفخار إرث تناقلته الأجيال ويجب الحفاظ عليه لأنه مصدر عيشهم الأساس الى جانب الزراعة. ويقول كبار المسنين من أهالي البلدة إن هذه الصناعة أطعمت أجيالاً طوال عقود خلت، وهي مترسخة ومتجذرة في عقول أبنائها الذين توارثوها ويرونها الأقدم في لبنان. مختار البلدة السابق يوسف الزوقي ـــــ80 عاماً ـــــ مارس هذه الحرفة منذ الصغر، وحتى وقت قريب، وسيلة عيش اعتمدها وقال: «صناعة الفخار في راشيا قديمة جداً وهي متوارثة عن أجيال سابقة، ازدهرت لعقود طوال قبل ستينيات القرن الماضي، لكنها تراجعت مع اتساع دائرة الاعتداءات الإسرائيلية، لدرجة باتت قلة قليلة تمارسها اليوم بهدف الحفاظ عليها طابعاً تراثياً، رافق البلدة منذ نشأتها ويميزها عن باقي القرى، هذه الصناعة تتطلب الدقة والذوق والعمل الدؤوبولخص المواطن اديب الغريب اسباب التراجع «بهجرة الشباب وغياب الدعم الرسمي وضيق الأسواق الاستهلاكية»، وقال «إن مقدار ما كانت تنتجه راشيا من الفخار قبل الستينيات اكثر من الف طن سنوياً من الأباريق والجرار والخوابي التي تستعمل لتخزين زيت الزيتون وحفظه والأواني الفخارية الأخرى. وكان عدد المصانع يفوق الستين مصنعاً وعدد الأفران نحو عشرين، يتسع الواحد منها لـ 500 «حُقّ» والحُقّ عبارة عن جرة صغيرة ومنشلين وأربعة أباريق، هذا الفرن سمي قديماً «عاكوشة» أي «أتون» أو «فرن النار».
    ويضيف المختار السابق «إن صناعة الفخار وراثية وشاقة لدرجة تلزم أفراد العائلة كافّة المشاركة فيها، فالإبريق مثلاً يمر بست مراحل قبل أن يصبح جاهزاً للبيع. وقد شهدت هذه الصناعة في السنوات التي سبقت عام 1948 ازدهاراً لا مثيل له، حيث كان تصريف الإنتاج يطال فلسطين والجولان وشمال الأردن وصولاً الى عريش مصر، وكانت قوافل التجار تقصد البلدة لتعود محمّلة بالأنواع المختلفة من الفخار. وبعد قيام دولة إسرائيل، توقف التصدير جنوباً ليقتصر على الأسواق المحلية وخصوصاً الشعبية منها مثل سوق الخان ومرجعيون وبنت جبيل وغيرها، فيما تبقى الأسعار خجولة ومتدنية قياساً بالأتعاب، بعدما كانت راشيا مقصداً للسياح والزائرين الذين كانوا يبتاعون أنواعاً مختلفة من الفخار».
    ويقول هاني إسبر ـــــ 85 عاماً ـــــ إن معوقات كثيرة واجهت هذه الصناعة، آخرها حرب تموز الماضي حيث توقف العمل شهراً كاملاً، الأمر الذي أدّى إلى تدنّي نسبة الإنتاج لكون العمل موسمياً يقتصر على فصل الصيف دون سواه، لكن إصرار العاملين وتمسكهم بهذا القطاع، دفعاهم الى اعادة إحيائه رغم تراكم المعوقات. وفي راشيا مصنع للفخار يعرف بـ «الفاخورة» أنشأته سابقاً مصلحة الإنعاش الاجتماعي في عام 1965 لاستيعاب العاملين في هذا القطاع كافة، لكن الاعتداءات الإسرائيلية لم توفره وطالت بعض جوانبه مع دخول المنطقة دوامة العنف، وطالب إسبر الدولة بضرورة المساعدة في تطوير هذه الصناعة «التي باتت تراثاً يمكن الاعتماد عليها مصدرَ رزق إذا توافرت المقومات اللازمةأما ولده جهاد العائد من كندا، فيرى أن الطريقة المتبعة في هذه الصناعة بدائية وقديمة، وقال: «نأمل إدخال المكننة في وقت قريب، لتسهيل العمل وزيادة الانتاج». وعن تفاصيل هذه الصناعة، أوضح أن التراب المستخدم هو الدلغان الأبيض المتوافر في محيط راشيا، حيث يوضع بداية في حفرة عمقها بضعة أمتار، ويخلط بالماء حتى يذوب، وتنقّى منه الشوائب، ثم ينشّف وينقل الى المشغل على شكل عجينة جاهزة للاستعمال، والمشغل هو ماكينة بسيطة مصنّعة محلياً تدار بالأرجل بواسطة دولاب كبير مربوط بـ «آكس» عمودي يحمل في الأعلى دولاباً خشبياً أصغر حجماً توضع عليه العجينة المراد تصنيعها والتي تمر بست مراحل قبل أن تصبح وعاء فخارياً جاهزاً للبيع.
    أضاف «إن قرار العودة من كندا هدفه إنشاء تعاونية لإعادة إحياء هذه الصنعة، وتم ذلك تحت اسم «الجمعية التعاونية الحرفية لإنتاج وتسويق الفخار في راشيا» وهي مسجلة تحت علم وخبر من وزارة الداخلية، وكان من باكورة نشاطاتها دعوة حاكم مقاطعة «إيف روم» شخصين من أعضاء التعاونية إلى زيارة لفرنسا مدتها 20 يوماً حيث جرى الاطلاع على المعدات والتقنيات الحديثة المستخدمة في صناعة الفخار والسيراميك والتحف الفخارية. والأفران المستخدمة هناك منها على الحطب وأخرى على الكهرباء والغاز، وهذه الصناعة تلقى اهتماماً ودعماً كبيرين من جانب الدولة والسلطات المحلية التي تقدم مساعدات ملحوظة في هذا السبيل». ويتابع: «شاركنا في العمل وقدمنا نماذج عن كيفية التصنيع اللبناني الذي نال إعجاب الفنيين الفرنسيين لدرجة أنهم بهتوا إعجاباً بالأداء اللبناني رغم الطرق البدائية التي أظهرت نتائج تضاهي عمل الماكينات الصناعية». وقال: «هذه الزيارة أعقبتها زيارة قام حاكم المقاطعة الى راشيا رافقه فيها وفد من الصناعيين ومسؤولة العلاقات الخارجية، مما أوجد نوعاً من الصداقة بين التعاونية ومقاطعة «لواز» التي قدمت لنا مساعدة هي عبارة عن فرن كهربائي مخصص لهذه الغاية يتسع لكميات لا بأس بها من الفخاريات الصغيرة والمتوسطة الحجم، ومن ميزاته القدرة على التحكم بدرجة حرارة ثابتة، وهذا ما تتطلبه الفخاريات المطلية بألوان مختلفة. ولتطوير هذا القطاع، تبقى التعاونية بحاجة الى عجّانة ودولاب كهربائي وفرن حديث، ومن شأن ذلك التخفيف من الحاجة إلى اليد العاملة. ومن نشاطات التعاونية مشاركتها في معارض تقام في مناطق لبنانية مختلفة».
    ما زالت صناعة الفخار في راشيا تعتمد طرقاً بدائية، لكنها ذات جودة عالية بالرغم من افتقارها للآلة التي تساعد في تطويرها وتخفف أعباء كثيرة عن أفراد العائلة العاملة، فيما يبقى المردود المادي ضئيلاً قياساً بالفترة الزمنية التي يتطلبها إنجاز العمل والجهد الذي يقتضيه. ويبقى العاملون في هذه الصناعة على أمل حدوث تغيير ما، لجهة دعم القطاعات الانتاجية في المناطق الحدودية.




    حكاية وليم روبنسون

    لم يكتف الاحتلال بتدمير منازل راشيا وبُناها التحتية، بل أوفد إليها المدعو وليم روبنسون الأميركي الجنسية من ولاية شيكاغو، وكان يعمل سابقاً ضمن مشاة البحرية الأميركية. جاء بداية الى مرجعيون إبان الاجتياح الإسرائيلي الأول في عام 1978 بحجة رعاية المعوقين والعمل الإنساني، وقبل انتقاله الى راشيا عمل في محطة «صوت الأمل» الدينية التابعة للعملاء والناطقة بلسانهم آنذاك، وأقام في مدرسة البلدة الرسمية بحجة تأسيس مركز لخدمة أبناء منطقة العرقوب، وبعد أيام على إقامته، أحضر روبنسون 12 تلميذاً مجهولي الهوية وأربعة من أولاده واقتطع نحو عشرة دونمات من الأراضي المحيطة بالمدرسة ناصباً حولها أسلاكاً شائكة، ومنع الأهالي من الاقتراب منها بهدف استقدام عائـــــــــلات يهوديــــة وإسكـــــانها في راشيا.
    وبعد افتضاح أمره، أصدرت جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية قراراً بتصفيته ونفذته في عام 1990، وعلى أثر العملية حاصرت قوات الاحتلال وعملاؤه بلدة راشيا وقرى العرقوب لمدة شهر كامل، وزجت العديد من أبنائها في معتقل الخيام وأبعدت آخرين.
    يذكر ان كلمة راشيا أصلها سرياني وتعني رؤساء أو زعماء، والفخار ترجمة لاسم سرياني يعني الخزف. وهذا ما ورد في كتاب الدكتور أنيس فريحة عن اسم بلدة راشيا الفخار.
    تقع على إحدى تلال سفوح حرمون الغربية، وهي إحدى قرى العرقوب، تشرف على جبال الجليل وسهل الحولة جنوباً وقمم الباروك والريحان شمالاً، وإلى الغرب منها يجري نهر الحاصباني، وشرقاً بلدتا كفر حمام وكفرشوبا، بلدة قديمة العهد ربما تعود لزمن الفينيقيين حيث الأماكن التاريخية في خراجها تدل على قدمها.
    الزراعة هي المورد الأساس لأهالي البلدة الى جانب الصناعة التي باتت شبه منقرضة بعدما ازدهرت لعقود طوال سبقت ستينيات القرن الماضي.