عرفات حجازي
تقترب الأزمة اللبنانية بوتيرة متسارعة نحو الخطوط الحمر بعدما أصبحت محشورة بضيق الفترة الزمنية التي تفصل عن الاستحقاق الرئاسي المفصلي في وقت تتواصل فيه التجاذبات والصراعات بين المحاور الإقليمية والدولية التي اتخذت من لبنان ساحة لممارسة الضغوط وتبادل الرسائل وتصفية الحسابات.
وفي ظل انسداد الأفق أمام الحلول والتسويات وازدياد سماكة الجدران العازلة بين فريقي الموالاة والمعارضة، برز تطوّر معاكس لأجواء الاختناق السياسي تمثّل بعودة موفد الخارجية الفرنسية السفير جان كلود كوسران إلى بيروت تحضيراً لانعقاد مؤتمر الحوار اللبناني الذي سيجمع قادة من الصف الثاني للأطراف التي تحاورت في مجلس النواب مضافاً إليهم عدد صغير من قادة المجتمع المدني. من الواضح أن باريس تعلّق آمالاً طيبة على هذا اللقاء الحواري من أجل كسر الجليد بين الأطراف اللبنانية وإعادة فتح قنوات التواصل في ما بينهم وإزالة حاجز الشكوك والتوجسات بينها وبين عدد من الأفرقاء من خلال تأكيد رغبتها في الانفتاح على الجميع وترك جدول أعمال اللقاء مفتوحاً على النقاش في كل المسائل السياسية المختلف عليها وتبادل الأفكار حول آليات الخروج من المأزق.
ومع أن فرنسا حرصت، منذ إطلاق فكرتها حول طاولة الحوار بين ممثلي القوى السياسية اللبنانية، على عدم إعطائها طابعاً رسمياً بل مجرد لقاء لتحريك الجمود السياسي وتشجيع العودة إلى الحوار والتلاقي، فإنه في حد ذاته عامل مشجّع على توفير مناخات مؤاتية لمقاربة الحلول والتمهيد للاستحقاقات المقبلة في أجواء وفاقية بعيداً عن نهج العناد والمكابرة. وفرنسا، مثل سائر الأوروبيين، لديها قناعة بأن احتمالات الوصول إلى تسوية ما زالت موجودة على خلفيّة شعور الكل بخطورة الأوضاع التي قد تدفع بالأفرقاء إلى سلوك خيارات قاسية تهدّد وحدة لبنان وسلمه الأهلي وتطيح التوازنات التي أرساها اتفاق الطائف.
غير أن الآمال التي علّقها البعض على الدور الفرنسي في مساعدة اللبنانيين على تخطّي أزمتهم سرعان ما تراجعت بعدما اتخذت الولايات المتحدة موقفاً سلبياً منه، وهو ما عطل قدرة فرنسا على تقديم مساهمة جدية ولو متواضعة. فالرئيس الفرنسي حريص على إقامة علاقة جيدة مع أميركا وإن كان يطمح إلى أن يؤدي دور الشريك لا دور التابع للسياسة الأميركية، مثلما كانت حال رئيس وزراء بريطانيا السابق طوني بلير. ولبنان، بدون شك، أبرز الملفات التي تنطوي على الشراكة الفرنسية ــ الأميركية التي أرسى دعائمها الرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك مع الرئيس جورج بوش أواخر عام 2004. وهذا الأمر استدعى من الرئيس نيكولا ساركوزي التمهّل في اتخاذ المواقف وتنسيقها مسبقاً مع الإدارة الأميركية التي فوجئت بالطرح الفرنسي وأرسلت على عجل وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس إلى باريس حيث وضعت مع ساركوزي جدول أعمال للسياسة العامة في المنطقة.
وفي هذا السياق، بدت الإدارة الفرنسية مهتمة بحفظ ماء الوجه وعدم الاسترسال في رسم تصوّرات الحلول وإبقاء الجهد الفرنسي محصوراً في العناوين الشكلية من دون أن تلغي إمكان الانفتاح على سوريا في التوقيت المناسب، لأن الخارجية الفرنسية تقيم على اعتقاد بأن ترتيب العلاقة الفرنسية ـــــ السورية التي تدهورت بشكل غير مسبوق في الأعوام الثلاثة المنصرمة، سيوفّر أجواء هادئة في لبنان ويؤدي إلى احتواء التوتر ووقف المزيد من الهزّات السياسية والأمنية.
وبالرغم من الجدل الدائر في الأوساط السياسية حول السياسة الفرنسية التي ستعتمد في مقاربة الملف اللبناني وملفات المنطقة، فإن الثابت هو أن فرنسا ساركوزي سعت للانفتاح على المعارضة، وتحديداً «حزب الله»، في وقت تسعى الإدارة الأميركية إلى إدراجه في اللائحة الأوروبية للمنظمات الإرهابية، كذلك فإن فرنسا تدفع باتجاه قيام حكومة وحدة وطنية بعد إقرار المحكمة، فيما واشنطن تريد الإبقاء على الحكومة الحالية ولا ترى سبباً لتغييرها قبل الانتخابات الرئاسية. هذا الانعطاف الواقعي والهادئ في السياسة الفرنسية لا يعني التصادم مع السياسة الأميركية الضاغطة على فرنسا كي لا يعطي تحركها رسائل مغلوطة إلى سوريا وحلفائها من اللبنانيين، ففرنسا مقتنعة في نهاية المطاف بأن أميركا ستُقدِم مجدداً على مراجعة سياساتها في لبنان والمنطقة في ضوء انقضاء المهلة التي أعطتها الإدارة الأميركية لنفسها في العراق، وهي مقتنعة بضرورة التشاور وتبادل الرأي مع الدول العربية ومع الأمين العام للجامعة العربية لأنها لا ترى تعارضاً في مسعاها مع المبادرة العربية بل تكاملاً وتعاوناً، خصوصاً أن القمة السعودية ـــــ الفرنسية أكدت أن المدخل الوحيد لمقاربة الملف اللبناني بروح التسوية الوفاقية هو الإسراع في تأليف حكومة الوحدة الوطنية التي وحدها تضع حداً للانقسامات الحادة وتحول دون الوصول إلى مرحلة الخيارات المعدّة التي تفتح البلد على أسوأ السيناريوات والاحتمالات المتوقعة.