نقولا ناصيف
كي يكون الرئيس إميل لحود منسجماً مع كل المواقف التي اتخذها منذ 11 تشرين الثاني 2006 على أثر استقالة الوزراء الشيعة الخمسة والوزير يعقوب الصراف، منسجماً مع إعلانه حكومة الرئيس فؤاد السنيورة غير موجودة لأنها أضحت غير ميثاقية، ومع مقاطعته جلسات مجلس الوزراء، ورفضه توقيع كل المراسيم والقرارات التي اتخذتها هذه الحكومة منذ ذلك الحين، وكتبه المتتالية قبل كل جلسة إلى الأمانة العامة لمجلس الوزراء طاعناً بالمراسيم والقرارات لانبثاقها من سلطة غير شرعية، وإحجامه عن توقيع مرسوم فتح الدورة الاستثنائية لمجلس النواب، وامتناعه عن توقيع مرسوم التشكيلات الدبلوماسية، كذلك رفضه مشروع المحكمة الدولية ونظامها كما أقرته الحكومة ورفضه توقيعه وإحالته على مجلس النواب لإقراره، ومع كتبه إلى الأمين العام للأمم المتحدة مبلغاً إياه بطلان إقرار مشروع المحكمة لصدوره عن جهة غير موجودة، وإحجامه عن توقيع مرسوم دعوة الهيئات الناخبة إلى الانتخابات النيابية الفرعية... إذا كان رئيس الجمهورية منسجماً مع ذلك كله، فلن يجد أمامه إلا إصدار مرسوم يعدّ حكومة السنيورة مستقيلة ويؤلف حكومة أخرى، يسلّم إليها رئاسة الجمهورية إذا تعذّر التوافق على انتخاب رئيس جديد للجمهورية، أو أقدمت قوى 14 آذار منفردة على انتخاب الرئيس المقبل من صفوفها.
وفي واقع الحال يبدو أن هذا هو خيار رئيس الجمهورية بإيحائه دوماً أنه سيحتكم إلى الدستور وإلى صلاحياته لتحديد القرار الذي سيتخذه عندما سيغادر منصبه في 24 تشرين الثاني 2007. إلا أن خياراً كهذا مرتبط أيضاً بمعطيات أخرى يرسمها مسؤولون بارزون في المعارضة:
أولها، ما يسمعه زوار قصر بعبدا من رئيس الجمهورية، وهو أنه أمهل المعارضة حتى 15 تموز كي تحدّد موقفها من توقيت الحكومة الثانية، انطلاقاً من اعتقاد راسخ هو أن أقطاب المعارضة متفقون على خيار الحكومة الثانية إذا أخفقت الحظوظ الأخيرة لتأليف حكومة وحدة وطنية. وما سمعه زوار لحود هو عدم اكتفائه بالحديث عن المهلة، بل قوله أيضاً إنه يمضي في خيارات وطنية وقومية تتلاقى وأهداف المعارضة، وهو يفضّل أن تعمد إلى المبادرة لتحديد الخيارات الصعبة لا انتظار قوى 14 آذار حيال ما ستقدم عليه في الاستحقاق الرئاسي، وخصوصاً إذا انتخب رئيس جديد للجمهورية خارج مبنى مجلس النواب كما يرجّح لحود. وما سمعوه منه أيضاً أن الخيارات التي رسمها لنفسه لا تسمح له إلا باتخاذ الموقف الذي يقتنع باللجوء إليه. وتبعاً لذلك يحض لحود أقطاب المعارضة على استعجال اتخاذ الخيار لا المراوحة، والمبادرة إلى الفعل لا إلى ردّ الفعل.
ثانيها، أن إعلان حكومة ثانية ليس خيار رئيس الجمهورية وحده، ولا حلفائه وحدهم، بل هو كذلك خيار تدعمه سوريا وإيران، وبات جزءاً من الاشتباك الناشب بين سوريا والسعودية، والولايات المتحدة وإيران، على انتخابات الرئاسة اللبنانية بغية رسم ملامح التوازن السياسي اللبناني الداخلي في ضوء حدة الخلافات القائمة بين فريقي كل من هذين المحورين اللذين يسودهما انقطاع كامل للحوار حيال طريقة إمرار الاستحقاق. ويبدو أن التباين القائم بين أفرقاء المعارضة هو صدى تباين مماثل بين دمشق التي تستعجل قلب الطاولة في لبنان، وطهران التي تحبّذ انتظار مسار حوارها مع واشنطن، الأمر الذي يجعل مصير تأليف حكومة ثانية أكثر جدية بدءاً من النصف الثاني من هذا الشهر، من دون أن يمثل مؤتمر باريس للحوار اللبناني في 14 تموز أي سبب لإبطاء تأليف الحكومة الثانية أو استعجالها.
ثالثها، أن حكومة ثانية لن تقف على طرف نقيض من القرار 1701 الذي يجسد اليوم المظلة الدولية الفعلية للبنان، ولعلاقته بجاريه سوريا وإسرائيل. وخلافاً للموقف من القرار 1559 الذي رفضه بعض أقطاب المعارضة، يحظى الموقف من القرار 1701 بوجهة نظر مختلفة، أكثر انفتاحاً وتقبلاً له. ومع أن القرار 1559 استنفد معظم بنوده ما خلا واحداً، فإن سبب تعامل المجتمع الدولي معه هو أنه يردم ثغرة في القرار 1701، فالأخير لا يلحظ تحديد مصير سلاح حزب الله وتجريده منه، مكتفياً بالتركيز على بسط الشرعية اللبنانية على كل أراضيها في الجنوب. في حين أن القرار 1559 ينص صراحة على نزع سلاح الميليشيات اللبنانية وغير اللبنانية. مع ذلك فإن علاقة كل من الرئيس نبيه بري وحزب الله بالقرار 1701 تعبّر عن وجهة نظر مميّزة، وعن إظهار الرغبة في التمسّك به. وهو ما أبرزته ملاحظات مسؤولين دبلوماسيين في دول مشاركة في القوة الدولية في الجنوب سمعها منهم محاوروهم اللبنانيون، ومنها:
ـــــ القلق الذي ساور سفارات تشارك دولها في القوة الدولية في الجنوب إثر أحداث مخيم نهر البارد في 20 أيار الفائت. وكاشف دبلوماسيون في هذه السفارات شخصيات رسمية لبنانية بقلقهم هذا، الناجم عن سحب الجيش أعداداً كبيرة من جنوده المنتشرين جنوبي نهر الليطاني على نحو بدا كأنه يفقد القوة الدولية المظلة التي كان قد أكسبها إياها القرار 1701، وهو وجود القوة الدولية والجيش اللبناني جنباً إلى جنب لتحقيق الأمن والاستقرار في هذه المنطقة. وأتى حادثا الأسابيع الأخيرة بإطلاق صواريخ من الجنوب على إسرائيل ثم التفجير الذي استهدف دورية جنود إسبان ليضاعف من هذا القلق.
ـــــ اللقاءات المثيرة للانتباه التي يجريها مسؤولون في حزب الله مع قادة الوحدات العسكرية الدولية، في ضوء نصائح أسديت إلى هؤلاء القادة ومفادها أن على القوة الدولية ورجال استخبارات وحداتها التعاون مع حزب الله لأنه بات يشكل الغطاء الوحيد لحماية «اليونيفيل» في الجنوب. وتبعاً لذلك توسّعت مروحة التنسيق الأمني المباشر بين الحزب واستخبارات الوحدات الدولية.
ـــــ تحوّل وجود القوة الدولية في الجنوب إلى بوابة يسعى حزب الله إلى اقتناص الدخول منها، عبر نسج شبكة علاقات مع قادة الوحدات الدولية وسفاراتها، ولا سيما منها الدول الأوروبية التي لم تطبع الحرارة علاقاتها بالحزب. وقد باتت هذه، في ضوء الأسباب التي تشغل الجيش اللبناني في الشمال وفي مناطق لبنانية أخرى كبيروت، في حاجة إلى التعويل على المعلومات التي في حوزة حزب الله ودوره في منع أي انتهاكات أمنية أو تهديد وجود القوة الدولية في الجنوب. وهو مغزى عبارة أن حزب الله أصبح شريكاً في حماية تنفيذ القرار 1701.
إلا أن المغزى الآخر للعلاقة الناشئة في الجنوب بين القوة الدولية وحزب الله، أن الانقلاب على التوازن السياسي اللبناني الذي يمكن أن يحدثه تأليف حكومة ثانية سيقتصر على بعده الداخلي، من دون أن يشكل تهديداً للقرار 1701 ودور القوة الدولية في الجنوب وبقائها.