strong>رنا حايك
  • إذا عجزت العين... تحل الموسيقى قبل كل شيء


  • علي رمّال رجل بلغ الرابعة والخمسين من عمره من دون أن يرى أي شيء. ولد كفيفاً وعاش يتحدى إعاقته. راكم الخبرات والمهارات، أسّس عائلة، وعشق الموسيقى، وهكذا وجد طريق المصالحة مع نفسه وحقّق سلاماً داخلياً يعجز الكثيرون من المبصرين عن تحقيقه

    يحتضن علي رمال الراديو وتعلو ثغره ابتسامة طفولية لا تفارقه طوال اليوم. لا يرى من العالم جماله ولا يؤرقه قبحه، فقد ولد كفيفاً. يحتمي في بيت دافئ مع آلة هارمونيكا هي كل ما يملك، وزوجة محبة وطفل تركت عملية القلب المفتوح على صدره ندبة.
    يقرأ علي، يستمع إلى الموسيقى ويعزفها، ويعشق ارتياد السينما والمسرح والحفلات الموسيقية. وهنا نقع على مفارقة تتجلّى في هذا الحب للسينما، وهي الفن القائم على الصورة، إذ يفهمها رمال من حوارات الممثلين. أما النزهات في الطبيعة فلا تعني له شيئاً. يفرض السؤال نفسه: «ألا تشعر بالحشرية لتخيّل الأشياء التي تسمع عنها ولم ترها في حياتك؟ البحر والجبل والزهور ووجه ابنك؟»، ويأتي الجواب نفياً قاطعاً، مصحوباً بفرضية أن عدم التمكن من النظر قد يكون أحسن من النظر. فعلي يعرف ابنه من رائحته ويتخيّل شكله من ملمسه.
    حتى اللعب في الشارع مع الأطفال لم يكن يستهوي علي في طفولته، فالموضوع «لا يعنيه» كما يقول. ويضيف أن الحسرة الوحيدة بالنسبة إليه كانت في ذهابه المتأخر إلى المدرسة. فحين كان يستفهم من أهله لماذا لا يرسلونه كما يرسلون إخوته إليها كانوا يجيبونه: «سنرسلك إلى مدرسة الكبار حين تُفتتح».
    قصد علي مدرسة الكبار حين أتم سنواته الثماني، أي عام 1961. دخل إلى المدرسة اللبنانية للضرير في بعبدا حيث تعلّم القراءة والكتابة على طريقة بريل، وحصل على شهادة البروفيه الرسمية ودرس العزف على الكمنجة ومبادئ الإيقاع والعود على يد أستاذه زكور مسّوح فاكتشف شغفه بالموسيقى. شغف جعله يستبدل طلبه الاعتيادي لمناسبة عيد ميلاده. فبدل البالون الذي كان يطلبه كل عام كهدية، طلب من أهله «مزيكا»، كما كانوا يطلقون على آلة الهارمونيكا، في عيده الثالث عشر. اكتشف نوتاتها الست، وعزف عليها «مصطفى يا مصطفى» وأغنية «جينا يا رفقاتنا» من برنامج أميرة حوماني للأطفال «صديقي الصغير» الذي تربّى على الاستماع إليه عبر أثير إذاعة بيروتوبعد تخرّجه عام 1975، عمل علي في المشغل الملحق بمدرسة بعبدا. لكن الحاجة إلى مهنة جدّية أصبحت ملحّة بالنسبة إليه. واكتشف علي صعوبة أن يجد المكفوف عملاً في لبنان مهما طوّر مهاراته. تابع «دورة سنترال» (أي العمل في مراكز الهاتف) في المدرسة الإنجيلية لأن أصدقاءه أخبروه أن من يشارك في الدورة ترتفع حظوظه في إيجاد وظيفة، ودرس أصول الترجمة في المعهد نفسه، لكن الوظيفة لم تتوافر.
    لم ييأس علي، وحين سمع بمدرسة للمكفوفين ستُفتتح في بئر العبد، التحق بها. تعلّم التجويد والعمل في صناعة القش لمدة سنة طمعاً في وظيفة حصل عليها أخيراً. درّس في معهد الهادي اللغة الإنكليزية والموسيقى لمدة سبع سنوات ثم توقّف لأنه لم يعد قادراً على العمل لساعات طويلة وتلبية كل ما صار مطلوباً منه. فحتى عام 1996، عمل علي خمسة أيام في الأسبوع من الساعة الثامنة صباحاً حتى الواحدة من بعد الظهر مقابل أجر بدأ بـ45 ألف ليرة ثم وصل أقصاه إلى 359 ألف في الشهر، وكان هذا الراتب ضرورياً ليحقق علي حلمه بالارتباط بزينب أي تلك الجارة، صديقة أخته، التي أحبته وأحبها منذ طلبت منه أن يعزف لها على الهارمونيكا موسيقى إحدى أغنياتها الأجنبية المفضلة التي تعود إلى حقبة الثمانينيات.
    علي وأصدقاؤه المكفوفون لا يتمتعون برعاية رسمية. يراكم هؤلاء المهارات ويتعلّمون متحدّين إعاقاتهم، لكن قلما يجدون مكاناً شاغراً يتيح لهم استثمار ما اكتسبوه من علم ومعرفة. فإضافة إلى الدورات التي شارك فيها علي، تعلّم أيضاً تظهير صور الأشعة في مستشفى البربير، وتعلّم مبادئ السولفيج وتمارين الصوت والعزف على البيانو في جمعية الشبيبة للمكفوفين وفي المؤسسة اللبنانية للمكفوفينلا يتلقى علي أية رعاية من الدولة، ولا ترحّب المؤسسات الخاصة بتوظيفه، فيقضي وقته يتردّد على الجمعيات التي تخلق لكل من هم في حالته مساحة يقدّمون فيها الخدمات التي يتقنون تقديمها مقابل مساعدات مالية رمزية. فهو الآن يعلّم اللغة الإنكليزية والموسيقى في المؤسسة اللبنانية للمكفوفين مقابل مئة ألف ليرة لبنانية في الشهر. يبحث دائماً عن عمل. كثيرون يعدون بتوظيفه لكن قلة يفون بوعودهم، فضلاً عن أن غياب الرعاية والاهتمام الرسمي يضع علي ــــ والمكفوفين بشكل عام ــــ أمام تحديات ومسؤوليات يصعب أن يقوموا بها، فهو مثلاً لا يستفيد من أي نوع من الضمان الصحي.
    تبقى الموسيقى هي الشغف الأول والأخير بالنسبة إلى علي رمال. يستمع إلى الكلاسيكية منها، ويحب أم كلثوم، لكن الأغاني الملتزمة والوطنية هي المفضلة بالنسبة إليه. يعزف خلال الحفلات التي يقيمها بين الحين والآخر ضمن نشاطات تنظمها جمعيات أهلية، موسيقى أغاني مارسيل خليفة وأحمد قعبور. يعتقد أنه قد يتمكن من التلحين لكنه لا يطرق ذلك الباب، إذ إنه لن يستفيد منه لأنه «غير معروف»، وبالتالي لن يحظى بفرصة الظهور. تعليم الموسيقى يستهويه، ويؤكد استعداده «للعمل بشكل مركّز وحصري على تعليم الموسيقى وعزفها»، فذلك يريحه. هذه الأمنية قد تتحقق قريباً في مركز الخدمات الإنمائية في الشياح الذي وعد علي بتخصيص صف لتدريس الموسيقى ضمن النشاطات المختلفة التي ينظمها المركزتؤكّد مديرة المركز، نزيهة دكروب، ضرورة رعاية ذوي الاحتياجات الخاصة وتوفير الوظائف اللائقة لهم. فهناك «قانون يلزم جميع المؤسسات الخاصة والرسمية بتوظيفهم، إلا أن القانون لا يُطبّق ولا توجد مراقبة رسمية على تطبيقه». وتضيف دكروب: «قصدنا علي للاستفادة من خدماتنا في مجال المساعدات المدرسية، إلا أننا اكتشفنا مهاراته، ونحن نعدّ الملف الاجتماعي الخاص به. وبما أن من واجباتنا دعم المجتمعات المحلية التي توجد فيها مراكزنا، قررنا دعمه من خلال إضافة نشاط موسيقي إلى النشاطات التي يقدمها المركز. ونحن الآن بصدد إعداد صف يتولاه علي لتعليم الموسيقى، ما زلنا ننتظر اكتمال عدد الطلاب للبدء بالدروس».
    ينتظر علي فرصة العمل، ويقتل أوقات الفراغ الطويلة من خلال صوت الراديو والساعة الناطقة التي تعلمه بمرور الساعات والحب العارم الذي يملأ جو أسرته في المنزل.
    فعلي ليس لديه الكثير من الأصدقاء. أصحابه هم زملاؤه في المؤسسات التي ارتادها. أما المبصرون فغالباً ما يتفادونه. علاقاته بالجيران محدودة أيضاً. يشعر أنهم لا يتجاوبون معه فيبتعد عنهم بصمت من دون أي شعور بالاكتئاب أو الانعزال، ومن دون مرارة ولا عتاب. تكفيه السعادة التي تعبق في أرجاء منزله. فبعد محاولتين للارتباط، كانت زينب الوحيدة التي تميّزت بـ«القدرة على فهمه». ترافقه في النزهات التي تعني له الكثير، ويستعيد أمامها لحظات تعارفهما الأولى فتبتسم خجلاً وتحمرّ وجنتاها. لم يرَ وجهها في حياته، لكنه يرى العالم من خلالها ومن خلال ابنه حسين.


    الوجه الآخر


    وراء هذا الضرير...

    تشيع زينب، زوجة علي، جواً من المحبة والفرح في أرجاء المنزل. تتنقّل بخفّة لا يثقلها تعب جسدي من وظيفة يومية تواظب عليها منذ عشر سنوات لتعيل أسرتها. وتتحدّث عن حبّها لعلي بنبرة لا يشوبها أي إيحاء بالشفقة. كثيرون من الأصدقاء والمعارف لا يتوانون عن لومها لاختيارها الارتباط بشخص ضرير. تواجههم بحبّها الخالص له. تشرح لهم أن الحب هو الأهم وأنها تستطيع أن ترى في علي الإنسان الخلوق الذي تتشارك معه الكثير من الصفات والاهتمامات كالهدوء وحب الموسيقى والطيبة، لا الإنسان الضرير.
    فهي تنسى أحياناً أنه لا يرى. ساعدها في أعمال المنزل خلال فترة حملها، تشعر أنها جزء منه وأنه «مكتوب على جبينها أنه لها». حين تعود إلى المنزل وتراه تنسى تعب النهار.