إبراهيم الأمين
يبتّ القضاء، خلال وقت قصير، طلب رد المحقق العدلي الياس عيد عن ملف التحقيق في جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري. ويبدو أن الأمور تسير وفق منطق الضغط المباشر على فريق التحقيق اللبناني، بحسب ما صار معروفاً من معطيات تجمعت لدى أكثر من فريق. لكن اللافت هو مباشرة فريق «الأكثرية» حملة منظّمة لتعطيل أي دور لفريق التحقيق اللبناني من الآن فصاعداً، وترك الملف برمّته في يد المحكمة الدولية، ما يعطي تفسيرات ليس معلوماً ما إذا كانت عائلة الحريري وعائلات بقية الذين سقطوا في الجريمة الإرهابية يدركون معناها، إلا إذا كان بينهم من هو متورط في لعبة سياسية، ولو على حساب ما يعرف منذ يومها بـ«مطلب الحقيقة».
في مرافعته السياسية التي تعرّضت لانتقادات مهنية من كل المعنيين بالملف الحقوقي، تحدث المحامي محمد مطر عن أسباب سياسية، وأشار إلى معطيات لدى لجنة التحقيق الدولية لم تسلّم إلى التحقيق اللبناني، وبالتالي فإنه ليس في مقدور المحقق عيد اتخاذ قرار بتخلية سبيل أي من الموقوفين، إلى جانب كمية من المعلومات والاتهامات لفريق الدفاع. وهو ما يفرض أسئلة على النسق نفسه الذي طرحه آخر اختراعات فريق 14 آذار النائب فريد مكاري، من نوع: من يقف خلف محمد مطر ومن أطلعه على ما هو موجود لدى لجنة التحقيق الدولية؟ هل فعلت اللجنة ذلك أم سرّبت المعلومات من طرف ثالث؟ ومن قال لمطر ومن خلفه إن هذه المعلومات تتضمّن أدلّة تدين أياً من الموقوفين في سجن رومية الآن؟ أم أنه، هو وفريقه، من قدّم هذه المعلومات ويعتبرها بمثابة أدلة قاطعة لا بد أن يستند إليها التحقيق في موقفه من مسألة التوقيف؟ ثم من أبلغه عن زيارات ولقاءات لفريق الدفاع مع المحقق عيد في مكتبه أو في منزله؟ هل هناك فريق تنصُّت ومراقبة يتولى الأمر؟ وهل هو فريق من الدولة أو من خارجها؟ أم أن المحقق عيد نفسه شكا إلى مطر وفريقه أنه عرضة لضغوط من فريق الدفاع وقدم لهم مثالاً عليها معلومات عن زيارات يقوم بها فريق الدفاع؟ وكيف قدّر مطر وفريقه أن عيد في وارد إخلاء سبيل أيّ من الموقوفين، وتحديداً كل من جميل السيد وريمون عازار؟ هل لديه من يجمع المعلومات عما يدور في خلد عيد؟ أم أن ما تردد عن مفاتحة عيد للقاضي سعيد ميرزا نيته إخلاء سبيل السيد وعازار كان صحيحاً وتم تسريبه إلى فريق «الأكثرية»، علماً بأن ميزرا ينفي طوال الوقت أنه يتحدث مع أحد غير المعنيين من القضاة في الملف برمّته؟ وأكثر من ذلك، من أبلغ مطر أن أي إخلاء للسبيل سيقود إلى فتنة؟ هل لديه معلومات عن نية أحد ما افتعال مشكلة بسبب إجراء قضائي كهذا؟ أم صحيح أيضاً ما تردد عن تهديدات تلقاها عيد بأنه في حال إخلاء سبيل جميل السيد فإن جماهير «المستقبل» ستقتحم منزله وتقتله هو وعائلته؟ ومن قال لمطر وفريق 14 آذار إن إخلاء السبيل سيؤثر في ملف التحقيق برمّته؟ ألا يقول هذا الفريق إن لديه معلومات عن لائحة كبيرة من المتهمين من لبنانيين وسوريين ستجلب إلى المحاكمة؟ وهل وجودها الآن خارج الاعتقال يؤثر في سير التحقيق؟ ثم كيف يتورط مطر، وهو محام، في اتهام صحافيين بأنهم يكتبون «مقالات مدفوعة»، وهل لديه ما يثبت ذلك، وماذا سيبرز عندما يجلب أمام القضاء لسؤاله عن معلوماته، وهل سيكون جاهزاً عندما تنشر لائحة المعلومات الخاصة بنشاطه وبموجوداته التي ترتبط مباشرة بملفات التحقيق هذه؟ أم هو يعتقد بأن ارتباطه السياسي (وربما غير السياسي) بفريق يضم أمراء الحرب والقتل والمال والفساد سيحميه من الملاحقة القانونية؟
ومع ذلك، فإن ملف التحقيق الدولي بدأ يلامس المرحلة الأكثر حساسية. وإذا كانت عائلات الشهداء تريد الحقيقة فعلاً، فليس عليها الموافقة على ما يجري الآن، حيث التسييس يبلغ ذروته، وخصوصاً عندما يراد نقل ملف التحقيق بكل موجوداته المادية والبشرية إلى محكمة دولية لا يعرف متى تُنشأ، وكيف ستسير الأمور داخل غرفها. أم إن هذه العائلات مقتنعة بأن ما روّجت له أوساط حاقدة في 14 آذار يمثّل الحقيقة؟
ومع ذلك فلا بأس من إبلاغ مطر ومجموعته بآخر أخبار التحقيق الدولي في ما خص الموقوفين، إذ قبل مدة حصل نقاش مفصّل حول هذا الأمر بين رئيس لجنة التحقيق الدولية سيرج براميرتس ومعنيين بالملف من لبنانيين وغير لبنانيين. ووجهت إليه أسئلة مباشرة عن موقف اللجنة ممّا يجري مع الموقوفين، وكيف أن الادعاء العام والخاص يعيد أمر استمرار توقيف الضباط الأربعة الآخرين إلى قرار اللجنة وإلى معلومات لا تزال بحوزتها. ورد القاضي البلجيكي مع شيء من الحدة: «سأقول، للمرة الألف، إن التوصية التي صدرت عن القاضي ديتليف ميليس ليست قانونية، وليست من صلاحية اللجنة، وهو خطأ لا يمكن تبريره بخطأ آخر، وبالتالي فإن محاولة حشر اللجنة لارتكاب خطأ إصدار توصية ثانية لن تنجح. ونحن لن نصدر أي توصية بهذا الخصوص. ولقد سألَنا الادعاء العام والمحقق العدلي اللبناني ووكلاء دفاع وأفراد من عائلات الموقوفين ومن الموقوفين أنفسهم عن ملف التحقيق، وقلنا لهم إن كل ما لدينا بات الآن بحوزة فريق التحقيق اللبناني، وليس لدينا ما نخفيه سوى بعض الأسماء التي تعود إلى شهود اشترط أصحابها علينا عدم ذكرها أمام أحد، ولا سيما أمام القضاء اللبناني. وبالتالي فإن لدى المحقق العدلي اللبناني كل المعطيات التي تمنحه حق التقدير واتخاذ القرار».
وتابع براميرتس: «طرحت علينا أسئلة تفصيلية عن مواضيع تخص الموقوفين، بعضها أعدّه الادعاء اللبناني، وبعضها هيئة الدفاع، أجبت بكل ما لديّ من معلومات وليس لديّ ما أضيفه. وبالتالي لا يحق لأحد، لا لجهة قضائية لبنانية ولا لجهة سياسية، أن يرمي المسؤولية عن ملف التوقيف عند لجنة التحقيق. إنه أمر حصري للقضاء اللبناني».
بالطبع، لم يكتف السامعون بهذا القدر وأصرّوا على القاضي البلجيكي القيام بخطوة إضافية، فأكد أن ما يقدر عليه قد فعله، وأن ما يمكنه القيام به لن يتجاوز تقديم المزيد من الإيضاحات لفريق التحقيق اللبناني إذا كان راغباً في ذلك. إلا أن الجانب السياسي عاد وقاله مساعد الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون القانونية نيكولا ميشال من أنه لا يمكن لأحد رمي كرة الموقوفين في حضن الأمم المتحدة.
يبدو أن عبارات براميرتس وميشال وصلت إلى فريق الادعاء السياسي الذي أوعز إلى مطر القيام بما قام به على أمل إطالة أمد اعتقال من هم في رومية اليوم.