عرفات حجازي
مع بداية العد العكسي لانعقاد مؤتمر باريس، دخل الوضع اللبناني في حال ترقب وانتظار لاحتمالات المرحلة المقبلة والتسويات الممكنة قبل موعد الاستحقاق الرئاسي الذي يشكل نقطة مفصلية في مسار المستقبل الذي سيرسو عليه لبنان.
وفيما يحرص الفرقاء اللبنانيون المدعوون إلى لقاء باريس على عدم الخوض في جدول الأعمال، تاركين للدولة المضيفة الترتيبات التنظيمية ونقاط البحث، إلا أنهم لا يستبعدون أن تكون البنود الثلاثة للمبادرة العربية في صلب ورقة العمل التي سيتقدم بها وزير الخارجية الفرنسي برنار كوشنير، ويدير على أساسها النقاش بين الأطراف المدعوة، مع إعطاء أهمية قصوى للاستحقاق الرئاسي بوصفه أولوية ملحّة إلى جانب الوضع الحكومي الذي لا يجوز، وفق رأي كوشنير، أن تبقى أكبر الطوائف عدداً خارج الحكومة، إلى الوضع الأمني وتحدياته وبلوغه مستويات خطرة لا بدّ من التصدي لها قبل أن تنذر بأوخم العواقب.
وإذا كانت الخارجية الفرنسية قد خفضت سلفاً من سقف التوقعات، وحصرته في كسر جليد العلاقات ومحاولات مدّ جسور الثقة وإعادة ربط خيوط التواصل بين القوى السياسية، فإنها في المقابل عازمة على التقدم بمقترحات وأفكار وسطية لتقريب وجهات النظر، سواء في الملف الحكومي أو الرئاسي، وهي تعتقد استناداً إلى جولة المشاورات التي أجراها موفدها جان كلود كوسران مع أركان المعارضة والموالاة أن مناخاً جديداً بدأ يتشكل، ولم يتبلور بعد، ومنطلقه إدراك لدى الفريقين المتنازعين أن اللعب بات على حافة الهاوية، وأي خطأ في الحسابات والتقديرات سيجعل اللعب داخل الهاوية.
وما يزيد تنامي هذا الإدراك هو الاقتراب من موعد انتخابات الرئاسة الأولى التي لا استحقاق بعدها، فإذا كانت القضايا الخلافية على أهميتها يمكن أن تحتمل المساجلات والمماحكات والأخذ والرد، فإن الاستحقاق الرئاسي قضية لا تحتمل التأجيل وغير قابلة للخطأ، وبالتالي فإن التمهيد لهذا الحدث يفترض من الموالاة والمعارضة إعادة تقويم شاملة لكل المواقف والرهانات في ضوء حقيقة لا يمكن القفز فوقها، وهي أن التعادل السلبي بين الطرفين يجب أن يدفعهما إلى تقديم تنازلات متبادلة، إذ من المستحيل على أي طرف أن يأخذ مطالب بالكامل، ولا قدرة لأي طرف على أن يستمر في تقديم عروض القوة، والطرفان يتهيبان المضي في خيارات التصعيد خشية الوقوع في المحظور.
وإذا كانت المعارضة التي رسمت بالأمس سيناريوات البدائل، وفي مقدمها تأليف حكومة جديدة، فإنها بدأت بالتراجع عن هذا الخيار، ولا تريد أن تسجل على نفسها دفع البلد نحو التقسيم، والفريق الحكومي الذي يجاهر علناً بأنه لن يسمح بالفراغ في سدة الرئاسة وهو عازم على انتخاب رئيس جديد بالأكثرية المطلقة بدأ يسجل تراجعاً عن هذا التوجه الذي اصطدم برفض مرجعيات وازنة لتجاوز الدستور وتخطي النصوص والأعراف الدستورية التي تشترط نصاب الثلثين لجلسة انتخاب الرئيس الجديد.
هذه الانفراجات تقاطعت مع إجماع الطرفين على المشاركة في لقاء الحوار في باريس تعبيراً عن الرغبة بعدم البقاء في حال المراوحة والدوران العبثي في متاهة الأزمة.
ولأن الدبلوماسية الفرنسية أدركت خطورة التأزم السياسي والأمني الذي يعيشه لبنان وخشيتها من فراغ يفتح الباب أمام فوضى شاملة وضعت أهدافاً متواضعة لخطواتها وهي إذابة الجليد بين القوى السياسية ووصل ما انقطع من تواصل بين أركان الموالاة والمعارضة على أمل أن تبني على محصلة اجتماعية لقاء سان كلو جسراً يعبر عليه المتحاورون الكبار باتجاه الحل من دون أن تقلل من أهمية العوامل الخارجية المكونة للأزمة. وعلى هذه الخلفية سعت إلى توفير شبكة حماية لمبادرتها، فأجرت اتصالات مكثفة مع الدول المعنية بالوضع اللبناني، وبخاصة الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية وإيران، حيث حصلت على موافقتها ووعد ببذل جهود صادقة لإنجاحها، على أن الثغرة الوحيدة في حركة الدبلوماسية الفرنسية هي غياب سوريا عن الصورة بعدما تمكنت واشنطن من تعطيل الانفتاح الفرنسي عليها مع اقتناعها بأهمية دور دمشق ونفوذها على الساحة اللبنانية وقدرتها على تعطيل أي حل لا تشارك في صنعه، فإذا كانت قدرتها على صنع هذا الحل محدودة، فقدرتها على التعطيل موجودة وفاعلة.
ولم يعرف بعد إذا ما كانت الخارجية الفرنسية في وارد استلحاق هذا الخلل وإرسال موفد إلى دمشق قبل انعقاد اللقاء اللبناني، لكن الأكيد أن فرنسا التي قررت إبطاء انفتاحها على سوريا مسايرة للضغط الأميركي ولاعتبارات تتعلق بالحوار الأميركي ــ الإيراني ــ السوري الذي لم تتضح آفاقه بعد وإذا ما كان مفتوحاً على تسويات أو على صدام ومواجهة، مصممة على استعادة دورها وسيطاً مقبولاً من دول المنطقة وبينها سوريا بالتحديد.
وبانتظار انطلاقة الحوار نهاية الأسبوع الجاري فإن خطوط الاتصالات العربية والدولية مفتوحة، وأبرز ما سجل خلال الساعات القليلة الماضية زيارة الأمين العام للأمم المتحدة عمرو موسى إلى كل من الرياض ودمشق، ولم تتضح بعد محصلة هاتين الزيارتين اللتين في ضوء نتائجهما يقرر موسى زيارة بيروت لمعاودة المسعى العربي أو ارجاءها، على أمل أن تعوض لقاءات باريس ويخرج المؤتمرون منها بمادة ثمينة يخضعها الفرنسيون للدرس المعمق وإعادة صياغة ما جرى في ورقة عمل بقالب جديد يصلح مبادرة خلاقة تكسر المواقف الجامدة وتطلق حلاً متوازياً ينصف الجميع ويخرج لبنان من أزمته الخانقة.