جان عزيز
لا تزال المعطيات الداخلية عن اتجاه الوضع اللبناني نحو المأزق والكارثة، أو نحو الخرق والتسوية، تشهد تقلّبات شبه يومية. وإذ يجزم المطّلعون بأن ما سيحسم تطور الأمر في النهايات، هو المواقف الدولية أكثر منها اقتناعات المعنيين اللبنانيين، يؤكدون بالقدر نفسه، أن رصد المواقف المحلية يظل مؤشراً صالحاً إلى حد كبير، لمعرفة توجّهات القوى الخارجية المعنية بالأزمة اللبنانية، التي تقف عادة حول كل من اللاعبين المحليين، والتي تنعكس بالتالي حقيقة مواقفها في أداء هؤلاء.
وفي هذا السياق، يمكن الإشارة إلى تبدّلات عدة في الأيام الماضية، أبرزها بين سلسلة تصريحات إيجابية لأصوات جنبلاطية بارزة، ومنها لوليد جنبلاط نفسه في جلسات غير إعلامية، وبين موقف نائب الشوف الكرنفالي في احتفال توديع برنار إيمييه. كما هناك التباين المماثل بين حركة سعد الدين الحريري وكلامه الإيجابي في اتجاه المعارضة، وبين المواقف المتشددة لفؤاد السنيورة، التي بلغت حد نعي حوار سان كلو، على لسان مستشاره وأحد ممثليه إلى اللقاء، محمد شطح، الذي رأى أنّ تأليف حكومة وحدة وطنية قبل الاستحقاق الرئاسي، أقرب إلى المستحيل.
ما هو التفسير الممكن لهذه التباينات؟ مطّلعون على حركة فريق السلطة وزواريبها الداخلية يرجّحون قراءة من ثلاث:
إمّا أن يكون المعنيون بهذه المواقف لم يتبلّغوا بعد المواقف الخارجية النهائية المفترض بهم تبنّيها، وهم يملأون الوقت الضائع بسلسلة تصاريح متباينة، تبقي لهم هامش التكيّف مع الإملاءات اللاحقة. وإمّا أن يكون القرار قد حُسم لمصلحة تسوية داخلية ما، على قاعدة المبادرة السعودية التي كانت قد أُنجزت قبل اغتيال المغفور له وليد عيدو في 13 حزيران الماضي، وبالتالي تكون التصريحات المغايرة للتسوية المفروضة، نوعاً من محاولات الإخراج الإعلامي. وإمّا على العكس، أن يكون القرار الخارجي قد حُسم لمصلحة المواجهة والذهاب بالبلد نحو الهاوية بأعين مفتوحة ومتيقّظة، وتكون التصاريح الإيجابية عندئذ، مجرد مناورات تهدف إلى التنويم والتخدير وتقطيع الوقت.
ويرجّح هؤلاء أن يكون التفسير الثالث هو ما بات الأقرب إلى الواقع والأكثر حظوظاً تنفيذية. ويستدلّون على ذلك بالحشد اللافت للأسطول الأميركي السياسي، من باريس إلى بيروت. ففي العاصمة الفرنسية، بات مؤكداً أن ناظرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس، أخذت من الإدارة الفرنسية الجديدة وعداً بتفريغ مضمون مبادرة باريس اللبنانية، في مقابل الإبقاء عليها شكلاً، تجنّباً لإصابة العهد الفرنسي الجديد بنكسة ممنوعة على صعيد سياسته الشرق أوسطية، وهو لا يزال في بدايته. وفي العاصمة اللبنانية، تجلّى السفير الأميركي بأبهى دبلوماسيته، وهو يعرض لتصوّراته في شأن التصرفات المقبلة لموظفين رسميين لبنانيين، في مرحلة ما بعد الفوضى الرئاسية والدستورية في
بيروت.
غير أن أكثر ما يقلق المتابعين أنفسهم، هو إدراك أن خيار الفوضى، يعني فعلياً خيار الزعزعة. وهو أمر يعرفه أصحاب هذا الخيار بالذات، مخططين ومنفّذين. ويشير هؤلاء دلالة على ذلك، إلى أن أحد السيناريوهات المطروحة تنفيذاً لنصيحة ديفيد ولش في بيروت في 15 أيار الماضي، أن «استعدّوا للأيام العشرة الأخيرة من ولاية لحود»، يقضي بإخراج 65 نائباً سلطوياً على الأقل من لبنان وحفظهم في الخارج، حتى الاستحقاق المذكور. بعد ذلك يُنقلون مباشرةً إلى مكان ما سيسمّى «المقر الموقت لانتخاب رئيس للجمهورية». وتردّد أن المكان المطروح هو قصر بيت الدين، لاعتباره قصراً رئاسياً صيفياً. فيتم انتخاب رئيس الفريق الحاكم ويقيم فوراً في مقره الموقت. ويظنّ المتابعون أنفسهم أن هذا السيناريو طُرح فعلياً على وليد جنبلاط، المعني الأول به، نظراً إلى كونه «صاحب الأرض». وذُكر أن رئيس اللقاء الديموقراطي أبدى تحفظات كثيرة حيال المشروع، أبرزها عملاني وميداني. ذلك أن ضمان خطوة كهذه يقتضي بالنسبة إلى جنبلاط حماية ظهره العسكري عبر بيئة مسيحية موالية، وتغطية خاصرته بقطع التواصل الشيعي المناوئ له، بين بلدتي القماطية وكيفون الشيعيتين في قلب الجبل، وبين الضاحية الجنوبية لبيروت. والمطلبان مستحيلا التحقّق، كما تبيّن لجنبلاط. وهذا ما قيل إنه جعله يتردد ويتقلّب وما اقتضى عدداً من الزيارات التطمينية إلى المختارة، من دون الوصول إلى نتيجة نهائية.
ويختم المتابعون بأن جنبلاط همس في أذن مطمئنيه: «احكوا مع بري»، وهذا ما أدّى إلى تكثيف الحركة على خط عين التينة. وفي انتظار استنفاد الوقت والوسائل، ستظل المواقف المتقلّبة سيدة الموقف.