غسان سعود
متقاعدون ينتقدون إهمال المؤسسة لمصلحة أجهزة أخرى: بعض اللافتات لا يلغي الانتقاد والتجريح السابقين

لماذا رفضت قيادة الجيش قرار الحكومة اقتطاع قسم من رواتب الموظفين لدعم المؤسسة العسكرية وعائلات شهدائها؟ هل هو مجرد حرص على الموظفين في هذه الظروف الصعبة، أم دليل على الاكتفاء؟ وقبل ذلك هل الاكتفاء بالدعم من الرواتب وطلب المساعدة من الدول الشقيقة والصديقة، دليل حرص على المؤسسة الأمنية الأم وحفظ كرامتها، أم هو مجرد أداء واجب صوري و«رفع عتب» أو كما يقول الشاعر «إذا جئت فامنح طرف عينك غيرنا، لكي يحسبوا أن الهوى حيث تنظر»؟
الأجوبة عن هذه الأسئلة، تتالت بمرارة على أسئلة ضباط متقاعدين وسياسيين متابعين لأوضاع المؤسسة العسكرية وحاجاتها. إذ رأى مصدر نيابي أن رد الفعل على الحسم من رواتب الموظفين «له مبرراته الكثيرة التي وصلت إلى من يعنيهم الأمر»، وقال إنه «طوال السنتين الماضيتين، كان هناك تدخل للسياسيين في الشؤون الأمنية، ومحاولة فرض أسس جديدة تخدم مصالحهم الضيقة دون أخذ المعطيات والضرورات الأمنية في الاعتبار. إضافة إلى إهمال المؤسسة العسكرية لمصلحة تجهيز أجهزة أمنية أخرى».
ورأى «أن المشكلة معنوية بداية، ويمكن القول إن صورة الفريق الحاكم اليوم، بالنسبة إلى العسكريين، ليست مثالية»، مذكّرا بأن رئيس الحكومة فؤاد السنيورة «تزعم، قبل الانسحاب السوري، المعارضين لصرف الأموال على تطوير المؤسسة العسكرية، واشتهر بسعيه الدائم عند الرئيس الشهيد رفيق الحريري، إلى تعرية ميزانية الجيش وخفضها حتى الحدود الدنيا، والاكتفاء «بما يقدمه الجيش السوري لشقيقه اللبناني من عتاد وذخيرة».
وأضاف «أما الشريكان الآخران: وليد جنبلاط وسمير جعجع، فلم يعتذرا يوماً من هذه المؤسسة التي لهما معها باع طويل من العداء، ولا تكفي بعض الإشارات الطيبة واللافتات المؤيدة للجيش، حتى ينسى العسكريون كلامهما الجارح في حقهم، أو تسليم جنبلاط عتاد ميليشياته التقدمية للجيش السوري لا اللبناني».
ويكمل الكلام أحد الضباط المتقاعدين، معتبراً أن «الفريق الحاكم أظهر قلة مسؤولية استثنائية تجاه الجيش بعد الانسحاب السوري. إذ لم يكلف بعض الطارئين في غيرتهم على السيادة أنفسهم عناء الاطلاع عن كثب على احتياجات الجيش وحقيقة قدرته على الإمساك بالأمن والحفاظ على تماسكه، ولم تسأل «الحكومة الاستقلالية» عن حاجة الجيش التموينية ليتمكن من الحفاظ على «الحرية والسيادة والاستقلال»، وخصوصاً أن أكثر المستبشرين لم يكن يتوقع مغادرة السوريين كل الأراضي اللبنانية بهذه الطريقة. ثم عمد الفريق الحاكم نفسه إلى اعتقال الضباط الأربعة. وهم شاء المعنيون أو أبوا، كانوا يتمتعون بخبرة كبيرة واطّلاع واسع ويتقنون عملهم بصورة شبه استثنائية. ولم تراع هذه المناقبية في اختيار بدلائهم، رغم إصرار قيادة الجيش على هذا الأمر، وتخوفها من المجيء بالشخص غير المناسبلاحقاً، يتابع الضابط المتقاعد «بدأ تعزيز أجهزة معروفة بولائها الفئوي على حساب تجهيز الجيش اللبناني. وكلما فاتحت القيادة أحد المسؤولين بحاجاتها كان الجواب يأتيها بأن الموازنة لا تسمح. فيما حكم الأكثرية في علاقتها مع الجيش هاجس وحيد يتعلق بموقف الجيش السياسي وعلاقته بالرئيس الأعلى للقوات المسلحة العماد إميل لحود، وأبدى أكثر من قطب في الموالاة عدم اقتناعه بحياد الجيش انطلاقاً من أنه لم ينحز إلى جانبها». كما ذكّر بما قيل عن الجيش وقيادته «إثر بدء تحركات المعارضة، التي تعامل معها الجيش تماماً كما فعل مع تحركات الموالاة حين كانت في موقع المعارضة».
وتطرق إلى المواجهة الأخيرة مع فتح الإسلام «التي دُفع الجيش إليها بغير إرادة كاملة»، معتبراً «أن أداء الفريق الحاكم كان دون المستوى المطلوب، ولم تصدر الحكومة قراراً واضحاً وجازماً في شأن الحسم وإعادة هيبة وكرامة العسكريين بسرعة. إضافة إلى تأثر العسكريين معنوياً من تلكؤ مجلس الوزراء عن الاجتماع إثر الغدر بقرابة عشرين عسكرياً، فيما كان يجتمع «من بقي من المجلس» بسرعة قياسية إثر أي حادثة اغتيال. وتوقف بمرارة عند «غصة العسكريين الخارجين من معركة البارد لمشاهدتهم في طرابلس وعكار آلاف اللافتات «المستقبلية» التي تحيي عناصر قوى الأمن واللواء أشرف ريفي، فيما تغيب لافتات الجهة نفسها عن تحية العماد ميشال سليمان وتضحيات عسكرييه».
أما اللواء المتقاعد عصام أبو جمرة فيأسف لـ«ضغط البعض على الجيش معنوياً، من خلال تضخيم خسائره، وعدم إبراز تسجيله إنجازاً ضخماً بالمقاييس الدولية، في مواجهة الإرهابيين، عبر القضاء على امتدادات فتح الإسلام خارج المخيم». وأوضح أن نسبة الخسائر في صفوفه «تعدّ وفق المقاييس العسكرية في حرب الشوارع، متدنيّة جداً، وخصوصاً عند الأخذ في الاعتبار كفاءة الإرهابيين الذين يواجهونه». ورأى أن جزءاً مهماً من هذه الخسائر «يعود إلى تأخر السلطة السياسية في إعلان قرار الحسم، الأمر الذي سمح للإرهابيين بتعزيز تمترسهم، وتفخيخ كل ما يحيط بهم». وسأل بالتالي عن أسباب «تلكؤ المعنيين، حالياً، عن إعطاء الجيش الضوء الأخضر لاجتثاث الإرهابيين من المخيم القديم».
وتوقف باستغراب أمام «عدم اكتراث حكومة السنيورة بتأمين المستلزمات العسكرية للجيش، إثر خروج السوريين الذين كانوا يقولون إن مخازن جيشهم والجيش اللبناني مشتركة، الأمر الذي دفع باتجاه الجسر الجوي بين لبنان والولايات المتحدة، مع كل الاستفزاز الذي يمكن لهذا الإجراء أن يثيره». كما استغرب «عدم مبادرة من بقي من حكومة السنيورة إلى دعم الجيش بالفعل لا بالقول فقط، ودفع مستحقات المؤسسة العسكرية، وخصوصاً سلسلة الرتب والرواتب، حيث يقسم العسكريون رتباً، لكل واحدة منها راتب. ويتدرج المتطوعون رتبة واحدة كل سنتين»، مشيراً إلى أن زيادات الرواتب «أقرت أعوام 1991، 1996 و1999 لكنها لم تدفع لكثيرين، إضافة إلى الظلم اللاحق بالعسكريين الذين سرحوا عام 1992 قبل إقرار الزيادة التي ضاعفت تقاعد المستقيلين بعدهم بيوم واحد». وقال «إن السنيورة يستكثر على العسكريين «زودة» صغيرة، فيما يسرف بالهدر في مؤسسات أخرى».
وفي الشأن الطبي، يقارن أبو جمرة بين المستشفى العسكري في بيروت والطبابة العسكرية في معظم دول العالم، منتقداً «إهمال العسكريين اللبنانيين وعدم احتضانهم إسوة بباقي دول العالم». ودعا إلى تعزيز المستوصفات العسكرية القادرة على مرافقة العسكريين إلى تخوم المناطق القتالية لإسعافهم بالسرعة المطلوبة. كما رأى «أن المطلوب اليوم، تعزيز الاهتمام بعائلات الشهداء وتأمين رعاية شاملة لها، وصرف مكافآت مشجعة وترقية كل المستحقين، والأهم من كل ذلك، تعزيز معنويات العسكريين وإشعارهم بحقيقة الالتفاف الشعبي حولهم، كما يفعل مثلاً العونيون في بلدة منيارة العكاريّة حيث يعدّون للعسكريين وجبات الطعام ويملأون أكياس الرمل ليستخدمها الجيش كمتاريس، ويشعرون العسكريين العائدين إلى بلدتهم بإجازة يومين أنهم البطولة كلها».
إلى ذلك، يأمل عدد كبير من العسكريين المتقاعدين في «أن تترجم المزايدات السياسية والاقتصادية والروحية في التغزل بالجيش، تبنياً حقيقياً لهذه المؤسسة وإنصاف أهلها الوافدين من مختلف المناطق اللبنانية وخصوصاً تلك التي تتسم بالفقر». وطالب بعضهم «بتقديمات مؤثرة ومستمرة»، منها تأمين منح دراسية لأولاد العسكريين في الجامعات الخاصة، كما يحصل في المدارس، المزيد من التسهيلات في ما يتعلق بالقروض السكنية، وضع حد للروتين الإداري المتعب في المستشفى العسكري وتطوير خدماته».
وختم أحدهم بالإعراب عن قلقه «من أن تكون أحداث البارد مقدمة لتغيير في عقيدة هذه المؤسسة ودورها، كما يسعى بعض أقطاب السلطة منذ سنتين وأكثر».