strong>أسامة القادري
  • 1500 من أبناء البلدة موظفون في السلك العسكري بديلاً من البطالة والتهريب

  • شكّل الانضمام إلى الجيش اللبناني الحلّ الأبرز للبطالة التي عاشها عدد كبير من أبناء بلدة الصويري البقاعية، وكان لفترة طويلة «نعمة» على من ساعدته «الواسطة» في الانتساب إلى السلك العسكري. لكن الوضع اختلف منذ اندلاع المواجهات في مخيم «نهر البارد»

    «شو استخبرت عن ابنك؟»، «الحمد لله ع السلامة قالوا إنو ابنك اتصل فيك»... بمثل هذه العبارات يبادر أهالي بلدة الصويري البقاعية بعضهم منذ اليوم الأول لاندلاع المواجهات في مخيم نهر البارد بين الجيش اللبناني وعناصر «فتح الإسلام»، إذ يشارك 150 شاباً من أبناء البلدة في المواجهات، وتجاوز عدد المصابين بينهم العشرين شاباً بعضهم جراحه خطرة.
    كلّ ما في القرية يوحي بأنها تعيش حالة غير طبيعية. الشوارع خالية من أي حركة باستثناء الذين يقصدون بعضهم للاطمئنان. العمل تعطّل، وتسمّر عدد كبير من الأهالي أمام شاشات التلفزة التي شكّلت «صلة الوصل» بالنسبة إليهم، ينتظرون سماع أي خبر عبرها ويحفظون كلّ الأسماء التي ترد للاطمئنان إلى سلامة أبنائهم.

    ذوو العسكريين

    يتذكر أبو مصطفى ابنه عامر، وفي عينيه دمعة المشتاق. يتأفف، ينظر إلى مسبحته، قبل أن يبدأ بالكلام: «دققت مئة باب وباباً من مرجعيات سياسية وعسكرية لكي أعيّن أولادي الخمسة في الجيش. ابني الأول تقدّم إلى ثماني دورات ولم يُقبَل لأن واسطته لم تكن ثقيلة». يضيف: «مش حرام عليهم رجال السياسة يزجوا الجيش بمعاركهم السياسية... ربينا ولادنا بدمع عيونا، كل شبر بنذر.. فليتقوا الله بقى...».
    يوسف زيتون أخ لخمسة عسكريين أيضاً، أخوه الأصغر يخدم عند مدخل مخيم نهر البارد. منذ اندلاع المواجهات يعيش أفراد الأسرة حالة من التوتر الشديد: «كادت الجلطة تقضي على الوالدة عندما سمعت عن المجزرة التي ارتكبت بحق العسكريين». هم لم يطمئنوا إلى اتصال الضابط الذي أخبرهم بأن ابنهم مصاب وإصابته طفيفة، فلم يفارقوا شاشات التلفزة وانتظروا ستة أيام ليتأكدوا من صحة المعلومة بعدما نقل من مستشفى زغرتا إلى المستشفى العسكري في بيروت. «عندها استطعنا رؤيته وعرفنا أن إصابته خطيرة جداً، رقبته ذبحت بشظايا قذيفة «ب7»، وهناك إصابة ثانية بليغة في صدره برصاص القناصة». يهز زيتون رأسه متأسفاً: «لم يدخل إخوتي السلك العسكري بكبسة زر، راح أبي «وإجا» حتى حفيت قدماه. وقبّل يد فلان وعلان حتى تعيّنوا بالجيشحتى عام 1989 لم تكن بلدة الصويري تشكل خزاناً للجيش، ولم يكن فيها أكثر من 150 جندياً. ارتفع العدد فجأة مع قرار استيعاب عناصر الميليشيات في المؤسسات الأمنية في عام 1990 رغم أن الصويري لم تكن تعرف العمل الحزبي. لكن، بفعل الوساطات السياسية آنذاك، تم استيعاب 450 شاباً، لتتوالى في ما بعد طلبات التقديم و«عجقة الواسطات». وفي حرب تموز الأخيرة على لبنان التحق بالجيش نحو 200 مجند مُدّدت خدماتهم تباعاً.
    أما اليوم، فنادراً ما تجد منزلاً لا يوجد فيه شخص أو اثنان في الجيش اللبناني، ويصل العدد في بعض الأسر إلى ثمانية. ويتوزع أبناء البلدة على: ألف عسكري في الجيش بين ضابط ورقيب وجندي و400 في الأمن الداخلي و100 في الأمن العام والدفاع المدني، عدا الموظفين في وظائف أخرى والمتقاعدين. بحساب آخر «لكل 1000 مواطن 185 عسكرياً في البلدة» يقول أحد أبنائها.

    «مهنة» لا بد منها

    قبل ذلك كانت الصويري كغيرها من القرى البقاعية المتاخمة للحدود السورية التي تعيش جواً اقتصادياً صعباً، تلجأ إلى الأساليب غير الشرعية من أجل تأمين فرص عمل للشباب، وعلى رأسها التهريب.
    يروي إبراهيم، أحد أبناء البلدة الذي كان يمتهن التهريب، أن هذا العمل كان وسيلته للعيش «كانت مهنة لا بدّ منها، متاعبها كثيرة وكبيرة، لكن مردودها مقبول نسبياً». ويتذكّر: «كنا نُهرِّب في الاتجاهين ما يُعدّ مفقوداً أو سعره مرتفع في البلد الآخر... في المقابل كانت حياتنا على كفّ عفريت»!!
    وهرباً من هذا «العفريت» وجد أبناء البلدة الحلّ في الجيش، لكن من لم يجد «واسطة» تعينه على الانتساب إلى «العسكرية» وجد التهريب باباً مشرّعاً له عبر الجبل و«وادي العامود» لاجتياز الحدود البرية على الخطين. فراجت تجارة التهريب التي كانت تتعرّض يومياً لعمليات القمع من الأجهزة الأمنية التي غالباً ما كانت تضم بدورها عدداً كبيراً من أبناء البلدة. وقد أدخل هذا القمع الرسمي للتهريب البلدة في جدل اجتماعي، لأن العاطلين من العمل أو من التوظيف في السلك العسكري أوالوظائف المدنية الأخرى اضطروا إلى امتهان عملية التهريب لكونها حاجة لا بد منها، فكان «الخبز المرّ» المجبول بالمخاطر و..«الموت».
    ورغم أن هذه «المهنة» أتعبت الصويري، إلا أنها كانت تشكل مردوداً اقتصادياً لها عبر عشرات العائلات التي تبحث اليوم عن عمل يقيها مخاطر «تعب» العمر. لكن، بعد الانسحاب السوري وإقفال الجيش لمعابر التهريب، توقفت هذه المهنة التي أدخلت عشرات الشباب إلى السجون في سوريا ولبنان، ودفع البعض حياته ثمناً للخبز وتحدّي مصاعب الحياة ومشاكلهاكان لا بدّ من البحث عن بديل، وجده الشباب في الجيش، وظيفة عسكرية هي أفضل السبل لتأمين حياة كريمة وعيش هادئ. واستطاع شباب البلدة من خلال «هجرتهم» نحو السلك العسكري أن ينتقلوا بوضعهم الاقتصادي السيئ الذي منعهم من تحصيل العلم إلى وضع أفضل حفزهم على التنافس العلمي مع أبناء القرى المجاورة، وبدأ أبناؤهم يحصلون على شهادات جامعية، في حين أن البلدة لم تكن تشهد سابقاً، أي منذ عشرين عاماً، نسبة متعلّمين بسبب الواقع الاقتصادي الرديء.
    غير أن هذا العدد الكبير من شباب البلدة في العسكر حرم الصويري قوى شابة يعوِّل عليها المجتمع المحلي في التنمية والإنماء والنشاط الأهلي العام والعمل الحزبي. وانسحب سلباً على الزراعة التي كانت تشكل مردوداً أو دخلاً يسهم في اقتصاديات الصويري لأن السواعد الفتية غابت عن الحقول التي لم تعد تطعم خبزاً أو تعطي قمحاً وحنطة. فالقمح والحمص والعدس كانت من الزراعات الأساسية في البلدة التي انتفت تقريباً لمصلحة زراعات أخرى بديلة كالكرز والمشمش والعنب، وجزء من الحقول بيع لمصلحة الزحف «الإسمنتي».
    ويرى محمد الطحّان، أستاذ مدرسي، أن هذه «الهجمة» على الوظيفة العسكرية ليست عيباً على أبناء البلدة، بل على الدولة، «حيث لا بنى تحتية في الصويري. ولم يلحظ البقاع عموماً سياسة دعم للزراعة وتوجيهها. وتنعدم كلّ مقوّمات نجاح التجارة، وخصوصاً بعد توقف التهريب بسبب انتشار الجيش على المنافذ غير الشرعية». أضاف: «الغياب الرسمي حدّث ولا حرج، رغم أننا نرفد المؤسسات الأمنية بخيرة شبابنا».
    لا يختلف رأي رئيس البلدية ظاهر الصميلي عن رأي أبناء البلدة. هو يؤكد أنّ انعدام اهتمـــــــام الدولة بالأرياف والقرى النائية شجّع الزحف إلى التوظيف في القطاع العسكري «هكذا يضمن المواطن الطبابة والتعليم لأبنائه، لذلك بدأنا نشهد تحصيلاً للشهادات العلمية بنسب عالية مقارنة ما قبل عشرين عاماً».
    ويلفت الصميلي إلى التعايش بين أبناء البلدة المنتمين إلى الطائفتين السنية والشيعية، وعدم انسحاب الاختلاف الطائفي والسياسي إلى خلافات بين الأهالي، لافتاً إلى أنه «بعد اندلاع الأحداث في الشمال، عمد الأهالي إلى السهر على أمنهم من أي خلايا إرهابية». وطالب الصميلي الدولة بأن تلتفت إليهم، فالمستوصف بحاجة إلى الدعم المالي والطبي. وطالب بالعمل على شبكة الصرف الصحي، ومعالجة الطرق في البلدة.




    غياب العمل الحزبي

    أثناء المعارك في «نهر البارد»، حضرت إلى البلدة بعثة «دعوة إسلامية» مكلّفة من دار الفتوى لنشر الدين الإسلامي والتشجيع على ممارسة العبادات. غير أن أهالي البلدة، احتجاجاً على ما تقوم به عناصر «فتح الإسلام» في الشمال، رفضوا استقبال البعثة منعاً لانتشار أي تيار متشدّد في البلدة. إذ تشتهر الصويري بخلوّها من المظاهر الدينية، أو حتى مناصري التيارات الأصولية. حتى أنّ المهربين الذين كانوا يهرّبون البضائع والأجانب يعملون اليوم على مراقبة المعابر التي يحفظونها ويعرفونها جيداً لضبط أي محاولات «تسلّل» وإبلاغ القوى الأمنية.
    من جهة ثانية، أدى انتساب شباب البلدة إلى المؤسسات العسكرية إلى حرمانها من العمل الحزبي الذي بزغ بصيصه في فتـــــــــرة زمنيــــــــــــة أفلت أيـــــــــام التمدّد القومي.
    وقد أدّى الغياب الحزبي إلى غياب العمل الأهلي والجمعيات التي تسهــــــــم في حــــــدودها الدنيا بالتعويض عن التقصـــــــــير الرسمي. أما ما استجد عليها من ولاءات سياسية مرحليــــــــــة «عاطفية» بعد استشهاد الرئيس رفيق الحريري، فلم يتجاوز الحدود المقبولة، ولم يسبب خلافـــــــــــات متشنجة كان يمكــــــنها أن تقع بين أبناء البلدة المنتمين إلى المذهبين السنــــي والشيعي.
    ورغم ذلك، يتحسّر وفيق الصميلي على غياب العمل الحزبي «الذي غيّب الجمعيات والأندية، وحوّل الصويري إلى قرية منسية لا همّ لديها سوى البحث عن وظائف رسمية لشبابها، تنقذهم من أتون البطالة والحرمان».
    أضاف أن هناك «جهوداً تبذل من مجموعة شبابية لإحياء العمل الأهلي وتأسيس جمعية ثقافية كمرحلة أولى تفتح الباب واسعاً أمام إدخال أنشطة وبرامج قد تسهم في تنمية البلدة».