نقولا ناصيف
تلاحقت منذ مساء أمس الاتصالات بين السفارة الفرنسية في بيروت وحزب الله عبر مسؤول العلاقات الدولية السيد نواف الموسوي لتجميد مفاعيل المواقف التي أدلى بها الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي الاثنين الفائت (9 تموز) لدى استقباله عائلات الجنود الإسرائيليين الأسرى لدى الحزب و«حماس»، واتهامه حزب الله بالقيام بـ«أعمال إرهابية». وأتت هذه الاتصالات في ضوء معلومات وصلت إلى السفارة عن احتمال مقاطعة ممثلي حزب الله اجتماع الحوار الوطني في سان كلو، في ضاحية باريس. وفي ضوء سلسلة الاتصالات والمشاورات هذه، أصدرت الخارجية الفرنسية، بناء على توصية من سفارة بيروت، بياناً بدا بمثابة تصويب لموقف ساركوزي من حزب الله، إذ أكد اعترافه بالحزب قوة سياسية لبنانية وتعويله على مشاركته في مؤتمر سان كلو. وهي المواقف نفسها التي سمعها الحزب من مسؤولي في السفارة التي أبدت له رغبتها في عدم حصول «تشويش» على انعقاد مؤتمر باريس وآمالها المعلقة على نجاحه بمشاركة الحزب.
في موازاة هذا التحرّك كان مسؤولو الحزب يجرون مراجعة للموقف الذي ينبغي اتخاذه حيال المشاركة في مؤتمر سان كلو وتقويم المدى المطلوب لتصويب موقف ساركوزي، من غير أن تؤكد أوساط المجتمعين طبيعة القرار الذي يعتزم الحزب اتخاذه، وإن بدا منذ ظهر أمس وحتى المساء، في أوساط رفيعة المستوى في الحزب، أن ثمة قراراً يميل إلى مقاطعة المؤتمر، ما لم يصدر إيضاح فرنسي يصوّب الموقف السياسي الفعلي من الحزب ومن دوره في مؤتمر سان كلو. وسرعان ما صدر التصويب الفرنسي مساءً تفادياً لانهيار الحوار قبل أن يبدأ. إلا أن الحزب لم يقتنع بموقف الخارجية الفرنسية. وأبقى قراره مجمداً.
ويأتي التشدّد الذي يسعى الحزب إلى طبع موقفه منه بعد موقفين فرنسيين فصلت بينهما 24 ساعة. أولهما للسفير الفرنسي برنار إيمييه في المختارة، مودعاً، عندما أطلق سلسلة مواقف كرّرت تأييد فرنسا لحكومة الرئيس فؤاد السنيورة والوقوف إلى جانب قوى 14 آذار، الأمر الذي أبرز ـــــ يقول مسؤولو الحزب ـــــ انحيازاً كاملاً إلى فريق لبناني دون آخر، فيما رمى الاقتراح الفرنسي لعقد طاولة الحوار في سان كلو إلى إظهار باريس بمظهر الوسيط النزيه الذي يدير حوار الأفرقاء اللبنانيين، ويساعدهم على تقريب وجهات النظر، والاضطلاع بدور المنفتح على كل القوى اللبنانية.
وهو مغزى ما سمعه الموسوي من السفير السابق والرئيس السابق للإدارة العامة للأمن الخارجي جان كلود كوسران مرتين، في الزيارة الأولى في 10 حزيران ثم في الثانية قبل أقل من أسبوعين. أما الموقف الثاني فللرئيس الفرنسي متوجّهاً إلى حزب الله مباشرة متهماً إياه بالقيام بأعمال إرهابية، فأتى كلام ساركوزي يستكمل ما لم يشر إليه إيمييه، وتحديداً توجيه تهمة الإرهاب إلى الحزب، يقول مسؤولو الحزب.
يفضي ذلك إلى ملاحظات ثلاث:
أولاها، أن امتناع حزب الله عن المشاركة في مؤتمر سان كلو يضع أعمال المؤتمر برمته في مهب الريح، لكون غياب ممثلي الحزب سيقود إلى غياب ممثلي الرئيس نبيه بري تعبيراً عن موقف شيعي واحد متضامن، وكذلك غياب ممثلي الحليف الثاني الرئيس ميشال عون. وإذّاك يفقد المؤتمر مبررات انعقاده إذ يقتصر الحضور فيه على فريق واحد هو قوى 14 آذار.
ثانيتها، نشوء توتر في علاقات فرنسا بحزب الله التي استقرت حتى الأمس القريب على نظام معين من التحفظ في تبادل الآراء ووجهات النظر حتى في المسائل الأكثر خصوبة للخلاف والاصطدام، من غير أن يزعم أي من الطرفين أنه أقنع مرة الطرف الآخر بوجهة نظره. وعلى وفرة المآخذ التي للحزب على إيمييه، كما على السفير الأميركي جيفري فيلتمان، في التعامل مع المشكلة اللبنانية والتدخّل في تفاصيلها الدقيقة، أبقى الحزب على خطوط الاتصال مع سفارة بيروت، إلا أن الأمر أصبح الآن أكثر تعقيداً نظراً إلى المنحى الجديد في علاقات الطرفين منذ صدور القرار 1701 في 11 آب 2006 وانتشار جنود فرنسيين جنوبي نهر الليطاني تنفيذاً لقرار مجلس الأمن.
مذّاك لم تعد قنوات الحوار ذات طابع دبلوماسي وسياسي وإنساني من خلال مساعدات وتقديمات اجتماعية ومهنية تقدمها باريس لأهالي الجنوب، بل طرأ عليها عامل أمني هو حاجة الجنود الدوليين ـــــ ومن بينهم الفرنسيون ـــــ إلى تبادل للمعلومات من أجل المحافظة على أمن القوة الدولية في الجنوب. بذلك استخلص الطرفان حاجة كل منهما إلى الآخر: يحتاج الحزب إلى بقاء صلة اتصال دبلوماسي بينه وفرنسا، وبينه والاتحاد الأوروبي من خلال باريس لفك العزلة الخارجية عنه. ويحتاج الفرنسيون بدورهم إلى تعاون الحزب معهم سواء لحماية جنودهم في الجنوب أو لإنجاح مبادرات سياسية يقدمون عليها من وقت إلى آخر.
ثالثتها أن عدم انعقاد مؤتمر سان كلو ـــــ وهو في الأساس مبادرة فرنسية محضة أطلقها وزير الخارجية برنار كوشنير ـــــ لا يؤدي إلى إخفاق الدبلوماسية الفرنسية في لبنان فحسب، بل أيضاً إلى تجريد الدور الفرنسي في هذا البلد من صفة حاولت الإدارة الفرنسية الجديدة أن تضفيها على دبلوماسيتها، أي دور الوسيط النزيه ذي الصدقية الذي يسعى إلى إعادة بناء العلاقات التاريخية والتقليدية بين البلدين، بعدما حجب الوجود السياسي والعسكري السوري هذا الدور وعطّل فاعليته قرابة ثلاثة عقود.
وفي واقع الأمر فإن ما قاله إيمييه في المختارة كان أقل نفوراً من الرئيس الفرنسي. كرّر السفير الموقف الفرنسي من لبنان، ومن دعمه قوى 14 آذار على أنها القوة التي تمثل السيادة والاستقلال، بيد أن توقيته على أبواب مؤتمر سان كلو بدا بمثابة رسالة مزدوجة الدلالة: أولى، هي تأكيد باريس لقوى 14 آذار مقدار الدعم الدبلوماسي والسياسي الذي تستطيع الاعتماد عليه من الإدارة الفرنسية وتشجيعها هذا الفريق في المقابل على الاستمرار في تصلبه للمحافظة على مكاسبه السياسية في الحكم والسلطة، وثانية هي أن على الحزب ألا يتوقع تحوّلاً جوهرياً في السياسة الفرنسية حيال لبنان وقوى 14 آذار تحديداً بالانتقال من عهد الرئيس جاك شيراك إلى عهد الرئيس نيكولا ساركوزي. ترجمة لذلك ترك كلام الأخير أثراً سلبياً لدى قيادة الحزب عندما أثار الجانب الأكثر استفزازاً لحزب الله، وهو اتهامه بارتكاب أعمال إرهابية.
على أن حصيلة مشاورات المساء بين السفارة والحزب والتي استمرت حتى ساعة متقدمة من الليل، لم تسفر إلا عن تجميد الحزب قراره بعدم المشاركة في مؤتمر سان كلو بانتظار ان يصدر في الساعات المقبلة عن قصر الإليزيه بيان واضح يشرح الموقف مما أدلى به ساركوزي ويصوبه. ذلك أن قيادة الحزب اعتبرت بيان الخارجية الفرنسية غير كاف للعودة عن قرارها بمقاطعة المؤتمر، وأمهلت المعنيين في الدبلوماسية الفرنسية بضع ساعات لتصحيح ما اعتبرته خطأ جوهرياً ارتكب بحق الحزب على أبواب انعقاد المؤتمر. وبالفعل صدر ليلاً بيان عن الإليزيه يستجيب ما طلبه الحزب.