نقولا ناصيف
انتهت أزمة البيان الفرنسي بآخر صوّبه. وخلافاً للقاعدة، فإن كلام الليل هو الذي محا هذه المرة كلام النهار، في خضم جهود تواصلت منذ ظهر الثلاثاء حتى ساعة متقدمة من الليل على خط بيروت ـــــ باريس ـــــ طهران. والحصيلة إنقاذ مؤتمر سان كلو للحوار الوطني المقرر عقده السبت والأحد المقبلين. وترجمة للتسوية أبلغ مسؤول العلاقات الدولية في حزب الله السيد نواف الموسوي ظهر أمس السفير الفرنسي في بيروت برنار إيمييه أن الحزب تراجع عن مقاطعته مؤتمر الحوار، بعدما اقتنع بمضمون البيان الذي أصدره قصر الإليزيه، وصوّب به الموقف الذي أطلقه الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي الاثنين الفائت (9 تموز) لدى استقباله عائلات الأسرى الإسرائيليين لدى حزب الله و«حماس»، ووصفه للحزب بأنه «إرهابي»، داعياً إياه إلى التخلي عن هذه الصفة.
على أن إخراج بيان الإليزيه مثّل إرباكاً مثيراً للسفارة الفرنسية التي ظلت طوال ليل الثلاثاء على اتصال مفتوح بالإليزيه والكي دورسيه، بينما كان أكثر من فريق لبناني وإقليمي يقود جهوداً مماثلة للاتصالات الدائرة بين إيمييه والموسوي. ودخل على خط مساعي إنقاذ طاولة سان كلو وصدقية الإدارة الفرنسية الجديدة بالذات وزير الخارجية الإيراني منوشهر متكي والسفير السابق جان كلود كوسران والأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله، وكذلك رئيس المجلس النيابي نبيه بري. وكانت الخلاصة السياسية أن الحزب انتزع من الرئيس الفرنسي مكسباً سياسياً مزدوجاً: تخليه عن اتهام الحزب بالإرهاب، والتزامه عدم إدراجه مستقبلاً على لائحة المنظمات الإرهابية. وقد تكون مفارقة تطورات ليل الثلاثاء أن وزير الحزب محمد فنيش الذي سيمثله إلى طاولة سان كلو هو أسير سابق لدى الإسرائيليين أطلق بتبادل أسرى أجراه الإسرائيليون والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين ـــــ القيادة العامة برئاسة أحمد جبريل في سني الحرب اللبنانية، فيما جهر ساركوزي أمام عائلات الأسرى الإسرائيليين بأنه سيضغط على وفد حزب الله لإطلاق الأسيرين الإسرائيليين من دون الخوض في صفقة تبادل أسرى، كالتي خبرها فنيش.
وتبعاً لمصادر طرفي المشكلة، فإن حزب الله فور تلقيه موقف ساركوزي منه ووصفه إياه بأنه «إرهابي»، اتخذ للتو، بالتشاور مع بري، قراراً بعدم المشاركة في مؤتمر سان كلو. وأبلغ القرار الشيعي إلى إيمييه الذي حاول تدارك انهيار مؤتمر الحوار اللبناني. كان موقف بري هو التضامن مع حزب الله، من غير أن يفقد الأمل في إمكان تطويق آثار كلام الرئيس الفرنسي، والحؤول دون نسف أعمال مؤتمر سان كلو. وبذل مساعيه لمعالجة المشكلة وتفادي تحميل الفريق الشيعي مسؤولية تعطيل الحوار، متفهّماً في الوقت نفسه مبرّرات موقف حليفه الحزب. ولم يكن بري أقل استياء من الحزب حيال تصاعد وتيرة تداخل المواقف الفرنسية في دقائق اللعبة السياسية اللبنانية وتفاصيلها، وخصوصاً بعد كلام إيمييه في المختارة الأحد الماضي. كذلك أجرى حزب الله اتصالاً بالرئيس ميشال عون وأطلعه على دوافع قرار المقاطعة. وكان رد عون تأكيد تضامنه مع موقف الحزب، لكن من دون أن يعطي جواباً واضحاً حيال موقفه من المؤتمر، مشاركة أو مقاطعة. وكانت هذه إشارة من الزعيم المسيحي إلى تمييز موقفه عن موقف الحزب، مستمهلاً مناقشة القرار داخل تياره، لكن من دون التخلي عن حليفه حزب الله.
في تلك الأثناء بلغت أصداء موقف حزب الله إيران التي كانت قد تلقت موقف ساركوزي باستياء مشابه. وقبل أن يستقبل متكي كوسران يوم الثلاثاء، اتصل بنصر الله واطلع منه على موقف الحزب مما قاله ساركوزي، حتى يشكل هذا الموقف وسيلة ضغط في محادثاته مع الموفد الفرنسي الخاص المولج حديثاً الملف اللبناني. كان جواب الأمين العام للحزب لوزير الخارجية الإيراني أن قيادة الحزب قررت عدم المشاركة في مؤتمر سان كلو ما لم يُصَر إلى تصويب الموقف الفرنسي على عجل، معبّراً بذلك عن احتجاجه على تصرّف الإدارة الجديدة، إذ تدعو الحزب إلى باريس للمشاركة في مؤتمر للحوار اللبناني، وتصفه في الوقت نفسه بأنه منظمة إرهابية.
وأبلغ نصر الله متكي أنه اشترط لعودة الحزب عن قرار مقاطعة المؤتمر أمرين:
ـــــ صدور إعلان صريح من فرنسا يؤكد أن حزب الله ليس تنظيماً إرهابياً، وأن تلتزم باريس هذا الموقف. على أن يصدر هذا الإعلان عن قصر الإليزيه لا عن الكي دورسيه. وفي وقت لاحق صدر بيان عن الخارجية الفرنسية لم يُرضِ حزب الله، فتشبّث بمقاطعة مؤتمر الحوار.
ـــــ أن يعلن الناطق الرسمي باسم الرئاسة الفرنسية دافيد مارتينون أن الرئيس الفرنسي لن يجتمع بأي من أعضاء الوفود المشاركة في مؤتمر الحوار اللبناني، أو أنه سيجتمع بهم جميعاً بلا استثناء. وأي خرق لهذه القاعدة على نحو يعبّر عن انحياز فرنسي إلى فريق دون آخر، أو استبعاد طرف دون سواه، سيحمل الحزب على مغادرة مؤتمر الحوار. وبدا المطلوب بذلك أن على الرئاسة الفرنسية اتخاذ موقف صريح من الوفود المشاركة بلا تمييز، وأن يعلن الناطق الرسمي كذلك أن هذا الإعلان اطلع عليه ساركوزي قبل تعميمه بغية أن يشكّل تصحيحاً من الرئيس الفرنسي لما كان هو قد أدلى به، لا مجرّد استدراك عابر للموقف.
بعد طهران نقل الشرطان إلى إيمييه بعد ظهر الثلاثاء. للفور أجريت اتصالات واسعة بين حزب الله والسفارة الفرنسية، وخلصت إلى صيغة أولى لهذا الإعلان رفضها الحزب ولم يقبل الخوض فيها. ثم كانت صيغة ثانية أدخل الحزب عليها تعديلاً لم يجعله شافياً، إلى أن كانت صيغة ثالثة وضعت في الإليزيه وأرسلت إلى سفارة بيروت في ساعة متأخرة من الليل، فأبلغها السفير إلى الحزب. استمهل أمينه العام لإطلاع شورى الحزب عليها. وافق عليها فأقرت وصدرت عن الرئاسة الفرنسية.
بذلك تكون المشكلة قد سُوِّيت وأنقذ مؤتمر سان كلو، وحصد الحزب مكسباً سياسياً هو صدور موقف فرنسي رفيع المستوى نزع عن الحزب صفة «الإرهابي»، وتأكيد أنه لن يدرج على لائحة المنظمات الارهابية. وفي واقع الأمر فإن الصيغة الأولى لبيان الإليزيه بدت ملتبسة وغامضة بالنسبة إلى حزب الله، إذ أوردت أن باريس ترى أن حزب الله غير مدرج على لائحة المنظمات الإرهابية. إلا أن الأخير ذهب إلى أبعد من ذلك، حين طالب بتعهّد فرنسي ألا يُدرج اسمه مستقبلاً على تلك اللائحة.