جان عزيز
لم تكن لحظة ارتياح ولا انشراح قطعاً، عندما وجد السفير الفرنسي في بيروت، برنار إيمييه، نفسه مضطراً أمس الأول، إلى الاتصال هاتفياً ولمدة ما يقارب ساعة كاملة، بأحد القياديين المعارضين. وخصوصاً أن كلامه مع هذه الجهة المعارضة منذ نحو عام كامل، لم يتعدّ الوقت الذي قضاه في هذا الاتصال الاضطراري. وبالأخص لأن موضوع المكالمة لم يكن غير طلب وساطة التيار المعارض المعني، والتمني عليه بأن يتدخل لدى «حزب الله»، للعودة عن قراره الذي كان قد اتخذه بعدم المشاركة في لقاء سان كلو.
لم يكن كلام إيمييه في المختارة قد جفّ بعد. ولم تكن خصوصاً ابتساماته لكلام وليد جنبلاط عن «التهديدات والصواريخ» قد مرّ عليها الزمن، حين وجد نفسه في موقع الساعي والمتوسّط لاستضافة أصحاب «الصواريخ» نفسها في عاصمته وفي أحد قصور إدارته الجديدة.
لم يتأخر جواب التيار المعارض على وساطة إيمييه: «لكن سعادتكم تكررون منذ أكثر من عام، أننا تابعون لحزب الله وملحقون بقراراته وحساباته، متأثرون بكل ما يريد، ولا إرادة لنا للتأثير في أي من أفعاله، فكيف تطلبون منّا اليوم عكس أدبياتكم المعروفة طيلة الفترة الماضية؟».
وبدا جليّاً أن زمن السفير المغادر قريباً إلى أنقرة، حيث اختار نظيره الأميركي قضاء عطلته الخاصة، كان عصيباً جداً. فلم يستسغ الدعابة المعارضة، ولم يثمّن صحة الموقف السياسي الذي يكمن خلفها. فردّ بكلام جدي يلامس المأساوية: «اللحظة حرجة جداً، والأفضل التعاطي معها على هذا الأساس»...
ودارت اتصالات ذلك المساء، بين الرابية والضاحية وقصر الصنوبر وباريس وتونس، حيث نيكولا ساركوزي، وطهران نفسها حيث «صودف» وجود منسّق مؤتمر سان كلو، «الغريم» الدائم للسفير إيمييه، جان ـــــ كلود كوسران.
ما المضمون الذي حملته هذه الاتصالات ويسمح بالتالي بتخطي قطوع مقاطعة «حزب الله»؟ المتابعون للمسألة أكدوا أنه منذ اللحظة الأولى بدت الخارجية الفرنسية في حال استنفار على المستوى الأقصى لمعالجة الأزمة. وجاءت مصادفة وجود كوسران في اجتماع مع أمين مجلس الأمن القومي الإيراني، علي لاريجاني، لتزيد من فاعلية هذا الاستنفار. فتح وزير الخارجية الفرنسية، برنار كوشنير، خطوطه مع كل من بيروت وتونس وطهران، معلناً وضع كل رصيده وموقعه ومستقبله في كي دورسيه، في كفّة إنقاذ سان كلو. طلب كوشنير من لاريجاني المساعدة مع بيروت. وأبلغ رئيسه في تونس ضرورة صدور بيان رئاسي يصحّح الخطأين المرتكبين: التراجع عن وصم «حزب الله» بالإرهاب، والتأكيد على أن ساركوزي لن يلتقي أيّاً من المشاركين في الحوار اللبناني، كي لا يفسّر عدم لقائه ممثلَيْ الحزب، كأنه تدبير تمييزي أو عقابي.
لكنّ الأهم من الاتصالات الفرنسية ـــــ الفرنسية والفرنسية ـــــ الإيرانية، كان تقديم قراءة «شبه رسمية» من باريس إلى بيروت، مفادها الآتي: بات واضحاً أن لقاء سان كلو أزعج طرفين أساسيين معنيين بالقضية، هما واشنطن وتل أبيب. وبات واضحاً أيضاً أن الأميركيين استعملوا كل أسلحتهم الثقيلة لإفشال الخطوة، من رايس في باريس إلى فيلتمان في بيروت. وفي الإطار نفسه تحرك اللوبي الإسرائيلي في فرنسا، ونجح في استدراج الموقف الرئاسي الذي سبّب الأزمة. وذلك بعد إعداد دقيق ومنظّم، أشرف عليه «إسرائيليو» قصر الإليزيه. وليس بعيداً عن هذا السياق محاولة إيمييه نفسه في بيروت، طيلة اليومين اللذين سبقا «الإشكال»، توزيع قراءة رسمية مفادها أن ما قاله في المختارة هو الموقف الرسمي الوحيد لإدارته. وأن فرنسا تقف قلباً وقالباً مع فريق 14 آذار، وترى أنّ حكومة فؤاد السنيورة شرعية مئة في المئة، وأن باريس مستاءة حتى من كلام نبيه بري الانتقادي لسفيرها.
وتابعت القراءة المنقولة «شبه رسمياً» من العاصمة الفرنسية أنه تتّضح من كل ما سبق خلاصة واحدة: مشاركة المعارضين في سان كلو لن تكون لمصلحة الفريق اللبناني الحاكم، ولا لمصلحة حلفائه المعلنين والمستترين، وبالتالي المطلوب استدراج المعارضة اللبنانية إلى رفض الحوار، ومقاطعة اللقاء. ما يعني حسابياً، أن تخطي هذه العقبة، والتعالي فوقها بالقدر اللازم من حفظ الكرامة، يجهض فعلياً مخططات السلطة ويفضح الكثير من عورات الفريق الداعم لها.
ولم تخف القراءة نفسها إدراكها لمحدودية الدور الفرنسي رغم ذلك كله، كما لضبابية الخطوات التي يقوم بها. ذلك أن التصوّر الوحيد الذي تملكه باريس، هو محاولة التقريب بين وجهات النظر اللبنانية، لوضع جدول أولويات مشترك، يتم تسويقه لدى واشنطن، ثم يلزّم إلى عمرو موسى للتنفيذ. الصورة تبسيطية، لكن الجهد المبذول لإبعاد المعارضة، يظل وحده كافياً لترجيح القرار: يجب على «حزب الله» أن يشارك، لا رغم العراقيل وحسب، بل بسببها أيضاً، في انتظار تغرّب إيمييه عن بيروت، وعودة المتغرّبين عن ذواتهم إليها.