البدّاوي ــ عبد الكافي الصمد نهر البارد ــ نزيه الصديق

الدفعة الأخيرة من المدنيين نزحت إلى البدّاوي واستشهاد جنديين لبنانيين في الاشتباكات مع فتح الإسلام

أعطت التطورات الأخيرة المتلاحقة في مخيم نهر البارد انطباعاً مؤكداً أن ساعة الحسم العسكري قد اقتربت، وأن الجيش اللبناني متّجه نحو إنهاء حالة «فتح الاسلام» في المخيم بالقوة، بعدما خرجت ظهر امس من المخيم آخر دفعة من المدنيين الذين كانوا ما يزالون متمسكين بالبقاء داخله، اضافة الى خروج مسؤولين في فصائل منظمة التحرير وقوى التحالف الفلسطيني منه.
وكانت الساعات الاخيرة من مساء اول من امس، وطوال فترة قبل ظهر امس، قد شهدت استعدادات ميدانية لإجلاء المدنيين، وسط تباين بشأن الأعداد المراقب خروجها من المخيم، اضافة الى تخوف البعض من أن يقوم مسلحو حركة فتح الاسلام بعرقلة عملية الاجلاء، اذا ما تبين لهم أن هذه الخطوة ستكون بمثابة اعطاء اشارة الانطلاق للجيش باتجاه حسم الأمر، حيث كان وجود المدنيين داخل المخيم هو الرادع الرئيسي لذلك.
وكان وفد من الصليب الاحمر الدولي قد وصل قبل ظهر امس الى مقربة من حاجز الجيش الموجود على بعد 400 متر من المدخل الجنوبي للمخيم، لمواكبة عملية اجلاء من أراد من المدنيين الفلسطينيين الموجودين في داخل مخيم نهر البارد، ترافقه حافلتا ركاب تتسع كل منها لنحو 23 شخصاً، وكان قد سبقه دخول سيارتي إسعاف، واحدة تابعة للصليب الاحمر اللبناني، والثانية للهلال الاحمر الفلسطيني.
وفيما تضاربت المعلومات حول أعداد النازحين، أوضح مصدر فلسطيني متابع لـ«الأخبار» أن المدنيين النازحين الى مخيم البداوي يقدر عددهم بنحو 200 شخص، فيما نقل عناصر الفصائل، الذين قدرت أعدادهم بنحو 165 شخصاً، بعد تفتيشهم والتدقيق بأغراضهم، في شاحنات تابعة للجيش، وسط تدابير أمنية مشددة، الى ثكنة عرمان للتحقيق معهم، على أن يُنقلوا لاحقاً الى ثكنة القبة العسكرية. أما مسؤولو الفصائل فقد خرجوا تباعاً، وأبرزهم امين سر حركة فتح في الشمال بلال اصلان، والمسؤول العسكري في الحركة في الشمال ابو عماد الوني، ومسؤول الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين في الشمال سمير لوباني ابو جابر، الذي نقل الى مستشفى صفد في مخيم البداوي للمعالجة، نظراً لتعرضه لوعكة صحية بسيطة ألمّت به.
وبعد فترة وجيزة من انتهاء عملية الإجلاء، فرض الجيش ما يشبه حالة الطوارئ ومنع التجول في محيط المخيم، وتحديداً في بلدتي العبدة والمحمرة وأطراف بلدة بحنين، فيما شوهدت شاحنات من فوجي المجوقل والمغاوير في الجيش وهي في طريقها الى محيط المخيم، بينما عملت قوة عسكرية على تهيئة اقامة مسشتفى ميداني قرب مستشفى الخير في المنية.
وفي موازاة عدم التأكد من صحة ما أشيع عن وساطات تجري لإجلاء 21 عائلة من عوائل مسلحي حركة فتح الإسلام من المخيم، معظمهم من النساء والأطفال، تواصل القصف على مواقع المسلحين داخل المخيم القديم، حيث قصفت مدفعية الجيش بشكل مركز طيلة قبل ظهر امس المواقع والتحصينات الأساسية للمسلحين على كل المحاور المواجهة داخل المخيم القديم، وعند تخومه.
وتركز قصف الجيش بالمدفعية الثقيلة على أحياء صفوري، المغاربة، سعسع، الغنيم، بدامون، الجاحولة، سويدان، حارة ابو التركي وحي الصمود، وعلى الملاجئ الستة التي يتحصن فيها عناصر فتح الاسلام ويتخذونها مواقع لإدارة معركتهم، وهي: ملجأ الشيخ ديب في محيط مسجد الحاووظ، ملجأ الشيخ رضا في حارة سويدان الى الجهة الجنوبية لمبنى التعاونية، ملجأ سليم الخليل عند أ طراف حي سعسع، ملجأ الخفاوي عند طلعة الصاعقة في محيط مسجد التقوى في حي المغاربة، ملجأ عطا في جورة الغنايمة وسط المخيم وملجأ جبهة النضال في حي الدامون عند الجهة الشمالية الغربية للمخيم القديم.
في مقابل ذلك، تعرضت مراكز الجيش والبلدات المحيطة بالمخيم الى قنص مركّز مصدره عناصر فتح الاسلام من المخيم، الأمر الذي أدى الى استشهاد جنديين، مع ملاحظة أن هذه العناصر تستخدم رشاشات قناصة من عيار 12,7 التي يبلغ مداها قرابة كلم واحد خط نار.
ونزح عشرات الفلسطينيين من مخيم نهر البارد أمس إلى مخيم البداوي فيما يتأهب الجيش لشن هجوم عسكري حاسم على مقاتلين يتحصنون فيه.
وقالت مصادر أمنية وسياسية إن الجيش يخشى استدراجه إلى حرب استنزاف مع المسلحين المتحصنين في شوارع المخيم الضيقة، وقد قرر التحرك للقضاء عليهم بعدما رفضوا نداءاته المتكررة بتسليم أنفسهم. وقالت المصادر إن الجيش نشر قوات إضافية في المنطقة ومن المتوقع أن يستخدم طائرات هليكوبتر عسكرية وسفناً حربية في الهجوم على المخيم الساحلي.
وسبّب وصول أكثر من 400 نازح من مخيّم نهر البارد إلى مخيّم البدّاوي بعد ظهر أمس، هم الدفعة الأخيرة ممّن بقي فيه من غير مسلحي حركة «فتح الإسلام»، تضخّماً إضافياً في أعداد النّازحين الذين باتت تضيق بهم البيوت والمدارس وحتى الشوارع.
وترافق هذا الاكتظاظ السكّاني الكثيف في مخيّم البدّاوي، مع تراجع حركة المساعدات والتقديمات التي كانت جمعيّات وهيئات إنسانية عدّة قد باشرت بتقديمها في الأيّام الأولى للنّزوح قبل نحو شهر ونصف، قبل أن تخفّ حماستها بعد ذلك، خصوصاً بعدما تبيّن أنّ المسألة تحتاج إلى إمكانات مالية كبيرة، وإلى جهد وصبر طويلين، وهو أمر يفوق قدرة أغلبية الذين سارعوا لأسباب مختلفة في مدّ يد المساعدة للنّازحين منذ البداية.
فقد بات واضحاً تراجع حجم المساعدات المقدّمة إلى النّازحين، وهو ما يلاحظ من خلال ندرة دخول شاحنات الإغاثة والمساعدات في الأيّام الأخيرة إلى مخيّم البدّاوي، واقتصار الأمر على مساعدات وخدمات استمرت في تقديمها بعض الجهات الإنسانية المحلية والعربية، إضافة إلى ما تقوم به عادة وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين في لبنان «الأونروا» من دور إغاثي بات موضع انتقاد في الآونة الأخيرة، نظراً لعدم تلبيته احتياجات النّازحين الآخذة في الازدياد.
ولم يعد مشهد من يخرج من النّازحين غاضباً من أحد مراكز المساعدات الباقية في مخيّم البدّاوي أمراً غير مألوف، وهو ما تمثّل في ما عبّرت عنه محسنة سعيد (68 عاماً)، التي صبّت جام غضبها على عاملين ومتطوعين في أحد المراكز، من غير أن توفّر مسؤولي الفصائل من السباب والشتائم، لأنهم «لا يهتمون بأمرنا، الله لا يوفقهم»، قبل أن تقفل عائدة من حيث أتت، وهي تمسح بيدها دموعاً سقطت أسى وحسرة على وضعها الحالي، حيث إنّها تبيت حالياً في إحدى صالات الأفراح في المخيّم، بالاشتراك مع عدّة عائلات، و«كلّ ما أطلبه «شرشف» لأتغطى به في الليل، وعباءة غير التي ما زلت ألبسها منذ خروجي من مخيّم نهر البارد قبل نحو 20 يوماً».
هذا النقص المتزايد في حجم المساعدات المُقدمة للنازحين، يتزامن مع خشية يبديها هؤلاء من أن يطول أمد بقائهم على هذه الحالة، إن لم يكن تراجعها أكثر نحو الأسوأ في الأيام المقبلة، خصوصاً إذا ما طالت أزمة تنظيم «فتح الإسلام»، و«تحوّل خروجنا المؤقت إلى خروج دائم، على شاكلة ما حدث معنا منذ خروجنا من فلسطين على دفعات منذ 1948»، حسب ما يقول أبو محمد زاهد (72 عاماً)، الذي يضيف: «كان خروجنا من بيوتنا خطأ، مثلما كان سكوتنا وعدم قدرتنا على منع وجود مسلحين غرباء بيننا خطأ أكبر، فها نحن اليوم ندفع وحدنا الثمن، وضاع على أهل المخيم جهد وتعب أكثر من 60 سنة، خصوصاً بعدما نفض الذين أرسلوهم إلينا يدهم منهم».
لكنّ الخوف الأكبر لدى النّازحين، وهو خوف لم يعد مضمراً أو مكتوماً، ليس في تأخر العودة إلى مخيّم نهر البارد، وهو أمر بات محتوماً ومؤكداً نظراً لحجم الدمار الهائل الذي لحق به، وما تتطلبه إعادة إصلاحه وإعماره من أشهر وسنوات، بل في عدم وجود أيّ أمل في الرجوع إليه مستقبلاً، ونهائياً، خصوصاً بعدما أشيع أنّ أكثر من خطّة قد جُهزت لاستيعاب النّازحين، وتحديداً المقيمين في المدارس، إلّا أنّ هذه الخطط بقيت طيّ الكتمان خشية بروز ردّات فعل سلبية حيالها، وحدوث أعمال عنف وشغب لن يستطيع أحد استيعابها أو تحمّل تبعاتها.