strong>غسان سعود
  • أبناؤه يبحثون عن طريق الاندماج الحقيقي في المجتمع اللبناني


  • لا تحتل منطقة وادي خالد المكانة التي تستحقها في وجدان
    اللبنانيين، قلة يذكرونها، يرسمون لها صوراً مشوّهة، لكن هذه
    المنطقة التي تعاني إهمال السلطات الرسمية المزمن، غنية بمفردات
    الحياة، وأبناؤها تواقون للاندماج الصحيح في المجتمع اللبناني. هم جزء لا يتجزأ منه لكنهم ينتظرون بلا ملل أن يلتفت إليهم أهل الحل والربط وأن تقدم لهم أبسط مقومات العيش العصري.

    يستعيد الأطفال لعباً بدائية، يصنعون حفراً قرب مجرى النهر ويملأونها بالماء لتغدو بركاً يسبحون فيها. قربهم، يجمع البعض حجارة صغيرة يتخيلها أشخاصاً، ويطلق عليها أسماء ليلهو بها.
    في منطقة وادي خالد لم يسمع هؤلاء الصغار بالرسوم المتحركة أو بـ«سوبر مان» وورثته، فيما تلتصق أشواقهم بأشياء صارت تبدو لمعظم الأطفال الآخرين وكأنها بلا معنى.
    في وادي خالد ينتظر الأطفال العيد من فصل إلى آخر، ليأتيهم بقطع ثياب يرتدونها شهوراً عدة، ويهديهم الأهل أو الأقارب بضعة آلاف يشترون بها ما شبعت عيونهم من تأمله في دكاكين بلداتهم. هنا يبكي الأطفال ليذهبوا إلى المدرسة هرباً من الأشغال التي يفرضها عليهم أهلهم، ويكرهون الصيف والعطل. هنا الأطفال يولدون كباراً لا يفقهون معنى الطفولة، لا يسمعون كلمة مشجعة، لا تحتضنهم يد حنونة، ولا تحتفل عائلتهم بهم وهم ينطقون كلماتهم الأولى ولا حين يتفوق في المدرسة ولا يكترث لهم الأهل حين يبتدعون شيئاً جديداً.
    في الوادي قرابة خمس وعشرين بلدة تبدو كأنها تجتمع بعضها حول بعض عند الحدود الشمالية اللبنانيّة ــــ السوريّة، راسمة ملامح عالم غريب لم تصله بعد الطرق المعبّدة، ولا المطاعم، ولا المكتبات، ولا الكومبيوتر، ولا الصحف. هناك يفتقر السكان إلى أبسط بديهيات العيش العصري. فيما تشي المنازل الجديدة بحقيقة أن أهل هذه المنطقة كانوا حتى أواخر القرن الماضي يسكنون في منازل من الطوب والحجارة السوداء. ويجدون سهولة في التوجّه صوب العمق السوري أكثر من زيارة شدرا وعندقت والقبيات أقرب البلدات اللبنانية إليهميثير وجود صحافي في هذه المنطقة اضطراب الناس، إذ يتحلّق الأطفال حول الكاميرا، من دون اكتراث لهويته الإعلامية، ويطلبون تصويرهم من دون السؤال عمّا إذا كانت الصور ستنشر لاحقاً، فيما ينشغل الشيوخ بالترحيب الحار بالضيف، فيكرمونه محاصرين ممانعته بتكرارهم أنهم أبناء عشائر عرب وأن أولى محاسنهم إكرام الضيف. أما الشبان فينشغلون بإيصال رسالتين. الأولى توضح أن التهريب عبر الحدود اللبنانيّة السورية سمة رئيسية في حياة هذه المنطقة، لا يمكن أهلها العيش من دونه. ويشدد الشبان على أنهم يُهرّبون المازوت والغاز فقط، ويجاهرون بالقول إن «مهرّبي البشر والأسلحة» معروفون من القوى الأمنية، وهي تعتقل بين الحين والآخر بعضهم قرابة عشرة أيام ثم تطلقهم. أما الرسالة الثانية فتعكس تململهم من نظرة اللبنانيين إليهم، التي هي نظرة احتقار لأهالي منطقة كبيرة لا يعرفها معظم اللبنانيين ولم يزوروها يوماً، ولكنهم يقولون كلاماً قاسياً في وصف أهلها، وهذا الكلام سمعه أبناء وادي خالد في بيروت وطرابلس وحتى في حلبا أقرب المدن إليهم.
    يبدأ أهل المنطقة روايتهم عن مكيدة نفّذها أحد إقطاعيي آل الدندشي بحقهم حين شجعهم على التهرب من اللجنة الفرنسية التي نظمت الإحصاء تمهيداً لمنحهم الهوية اللبنانية، فأقنع سكان الوادي بحجة كاذبة مفادها أن كل من يسجل اسمه سيُطلب لاحقاً ليخدم في الجيش الفرنسي ضد المقاومة العربية. وهكذا حافظ الإقطاعي على سيطرته عليهم، وبقوا هم من دون جنسية حتى عام 1994 حيث شرّع اتفاق الطائف منحهم هويّة بعد حركة مطلبية استمرت أكثر من نصف قرن، ومنحوا الجنسية اللبنانية تنفيذاً للمادتين 6 و56 من الاتفاق اللتين تتناولان طريقة كسب الجنسية اللبنانية والحفاظ عليهاحصل معظم أبناء هذه المنطقة على الجنسيّة اللبنانيّة في التسعينيات، ولكنهم فشلوا في دخول سوق العمل، إذ تشترط معظم المؤسسات أن يكون الراغب في العمل لبنانياً منذ أكثر من عشر سنوات. وهكذا لم تتعدَّ بعد نسبة الموظفين في المؤسسات الرسميّة والشركات الخاصة الضخمة أكثر من 10 في المئة من مجموع أهالي الوادي فقط. وعلى رغم أن الشباب منعوا من التطوع في الجيش، كانوا ملزمين طوال السنوات العشر التي انقضت بتأدية خدمة العلم والقيام بكل الواجبات المالية والمعنوية المتوجبة عليهم كلبنانيين.
    إهمال الحكومات المتعاقبة لوادي خالد دفع أبناءها إلى الاعتماد أكثر على أنفسهم، فيتعاون بعضهم مع بعض ويقسمون كلفة المشاريع التي ينفذونها على عدد الأسر، ثم يجبون الأموال ليبنوا الجسور التي تصل بين بلداتهم، ويشقون الطرق ويرمّمون شبكتيْ الكهرباء والمياه، ويحفرون الآبار الارتوازية الخاصة لتوفير مياه الشفة والري لمن يفتقرون إليها. ولا يذكر معظم أهالي هذه المنطقة نائبيْهم السابقيْن محمد يحيى وجمال إسماعيل إلا لتوجيه انتقادات لهما و«الأسف على الثقة التي خاناها»، كما قال عدد كبير ممن التقيناهم. ويوضح الشاب أحمد السيّد أن أهالي الوادي بدأوا أخيراً بالتعرف بأمور السياسة وشؤونها وخفاياها، وغالبيتهم لا «يتحزّبون» لزعيم أو لحزب معين بسبب أولوية انتمائهم العشائري. وهم ينقسمون بين عشيرتيْ عرب الغنّام وعرب العتيق. وبسرعة يتضح أن الغضب من النواب السابقين لا يمكن مقارنته مع المفردات التي تستخدم عند ذكر النواب الحاليين، وخصوصاً نائب منطقتهم «عزام الدندشي الآتي من خارج العشيرتين الرئيسيتين».
    ثمة كلام يردّده كثيرون عن «انتقام رئيس كتلة المستقبل في عكار مصطفى هاشم» من أبناء المنطقة لأنهم رفضوا تأييده بالمطلق خلال الانتخابات النيابية الماضية. ويقول أحد الشباب إن الهاشم يتابع بنفسه قمع مهربي الغاز والمازوت فيما عرباته التي تنقل البحص و«الخفان» من لبنان إلى سوريا، بطريقة غير شرعية، والتي لا تتوقف عادة لحظة واحدة طوال الليل والنهار.
    من جهة أخرى، تزخر الحياة الاجتماعية في الوادي بتفاصيل غريبة. فحين يختلف شخصان مثلاً تترك القوى الأمنية لشيوخ العشائر حرية التصرف لحل المشكلة وفق عاداتهم، علماً بأن صفة الشيخ تعطى للمتقدمين في السن الذين يجذبون أهل القرى إلى دارتهم لحكمتهم ومرونتهم في التعامل مع الآخرين. ويختار معظم شباب الوادي التوجه إلى سوريا لمتابعة تحصيلهم الجامعي بدل الذهاب إلى طرابلس «لأن المشوار إلى حمص أقل كلفة من الذهاب إلى القبّة (في طرابلس)». واللافت أن نسبة كبيرة جداً من صغار المنطقة لم تبدأ ارتياد المدارس حتى عام 1994. ووسط قرابة ثلاثين ألف ناخب، هناك خمسة أطباء وثلاثة مهندسين وقرابة عشرة محامين فقط. وكان بعض الأشخاص قد تبرّعوا بمنازلهم لتصبح مدارس، وثمة اليوم ثانويتان ومهنيتان، إضافة إلى مستوصف تساهم مؤسسة الوليد بن طلال بتغطية معظم تكاليفه. واللافت أن عدداً كبيراً من خريجي الجامعات يعملون في التهريب أو الزراعة «لأن عائداتها أفضل من الوظائف الأخرى».
    يكرر أهالي الوادي الكلام عن علاقتهم بـ«الدولة»، فهم يدفعون كل ما يتوجب عليهم من ضرائب ومساهمات لكنهم لم يلقوا عبر العهود المتعاقبة إلاّ الإهمال من قبل السلطات الرسمية التي لا تكترث لوجودهم... معهم تعود مفردات المأساة لتختلط بصور أناس يحاولون عبثاً منذ أكثر من عشر سنوات الخروج من عزلتهم والاندماج في المجتمع اللبناني... هنا يلتقي الزائر أطفالاً يحبون الحياة بكل تلوينها، ويسعون على رغم حرمانهم المتمادي إلى أن يفرحوا بالقليل الذي يملكونه.




    إلى اللقاء عند نبع الصفا

    مطعم «نبع الصفا» المتاخم للنبع الذي يغذي النهر الكبير الفاصل بين لبنان وسوريا هو المكان السياحي الوحيد في الوادي. ومعظم الأهالي يستقبلون زائريهم في هذا المطعم، حيث يحتشد عصراً معظم شبان البلدة الذين تتراوح أعمارهم بين 25 و30 عاماً. ويقضي هؤلاء وقتهم بتدخين النارجيلة وسط الأشجار التي تظلل ضفة النهر.
    في إحدى الزوايا، يجلس أحمد، ومحمد، وعمر وبلال يتناقشون في أمور السياسة، وفي نظرة البعض الدونيّة لهم واتهامهم بالعمالة للسوريين. يوضح أحمد بداية، أن الشبان الأربعة أنهوا دراستهم الجامعية قبل قرابة سنتين، وطرقوا عبثاً أبواب المسؤولين أملاً بالحصول على وظيفة. وبعدما سُدّت الآفاق في وجههم عادوا إلى المهنة التي زاولها أهلهم منذ عشرات السنين وهي التهريب. وهنا ينطلق عمر في الكلام عن الحدود الأميركية ــــ– المكسيكية، مسرفاً في التأكيد على أن التهريب أمر طبيعي بين البلدان المتجاورة.. قبل أن يقاطعه بلال مشيراً بإصبعه إلى مجرى النهر قائلاً إن قيمة «تنكة» المازوت تزداد خمسة آلاف ليرة لبنانية بمجرد عبورها هذا النهر، ويكشف عن امتلاك بعض عائلات الوادي أكثر من حمار، ويقضي أفراد هذه الأسر النهار في التنقل بين ضفتي النهر محملين بقوارير الغاز وغالونات المازوت، فيما يكشف محمد أن عربات «تحظى بغطاء من أحد نواب كتلة المستقبل تنقل الحصى طوال النهار من لبنان إلى سوريا عبر معابر غير شرعيّة». ووسط تكاثر «الخبريات» عن التهريب، يعود أحمد ليؤكد أن الجيش المرابض في الوادي وعلى أطرافه، يراقب بدقة هذه النقطة عند الحدود.
    وفي السياق نفسه، يقول صاحب مطعم «نبع الصفا» إن مشكلة أهل الوادي والمناطق المتاخمة مع تيار المستقبل تفاقمت بعد تمادي قيادييه في الإساءة إلى سوريا التي عمدت بدورها إلى التشدد في منع مرور بضائعها إلى لبنان. الأمر الذي أفقد أهل الوادي مورد دخلهم الأساسي وكاد يقضي عليهم جوعاً لولا توسط بعض مشايخهم لدى السوريين.