عامير رابابورت
محاولات الجيش الإسرائيلي احتلال بنت جبيل كانت فاشلة. قائد المنطقة الشمالية أودي آدم عارض احتلال المدينة، إلا أنَّ هيئة الأركان العامة رأت الصورة من وجهة نظر مختلفة، وأمرت آدم باحتلال المدينة. كانت الأوامر تعطى إلى الوحدات والألوية، ويجري تغييرها في اللحظة الأخيرة، ما خلق حالاً من البلبلة الميدانية والقتالية، أدَّت الى أن تتحول المواجهات بين مقاتلي «حزب الله» والجنود الإسرائيليين إلى معركة إسرائيلية لـ«إخلاء المصابين والقتلى» من الإسرائيليين. في ما يأتي يستعرض محلّل الشؤون العسكرية في صحيفة «معاريف»، عامير رابابورت، وقائع معركة بنت جبيل، في الحلقة الثالثة من سلسلة التحقيقات التي أعدّها عن الإخفاقات الإسرائيلية العسكرية في حرب لبنان الثانية

يوم الثلاثاء، الخامس والعشرين من تموز، اتصل رئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود أولمرت، بضابطي الألوية المتمترسين عند التلال المطلة على مدينة بنت جبيل، العقيدين تمير يدعي، وحغاي مردخاي.
ليس في كل يوم يتصل رئيس حكومة بعقيد. قال أولمرت لهما «أنا أتكل عليكما، وأثق بكما»؟، مضيفاً «أنتما تقومان بعمل جبارٍ؟ حافظا على نفسيكما وعلى جنودكما. ولا تنسيا لحظة أنَّ شعب اسرائيل من ورائكما. أنا فخور بكما وأحبكما». كان أولمرت راضياً عما يجري وقصد ما قاله.
في الساعة نفسها، وصل وزير الدفاع، عامير بيرتس، إلى القاعدة المدفعية في الجليل الغربي. تصبّب عرقاً حين رتب شاربيه. كان هاماً جداً بالنسبة لبيرتس أن يظهر كأنه يدير الحرب. أن يظهر بالمظهر اللائق. حرصت سكرتيرته الخاصة على «مكيجته» قبيل الخروج إلى الكاميرا.
في ذلك الصباح، كان القتال في بنت جبيل يسير على ما يرام. ولواء غولاني أبلغ أنه قتل 16 مخرباً وكتيبة التمشيط كشفت عن غرفة رصد تملأها أجهزة الاتصالات التابعة لحزب الله، ووثائق في طياتها تفاصيل عن الأماكن الكثيرة التي دفنت فيها العبوات الناسفة التي انتظرت دبابات الجيش الاسرائيلي. احتوت الوثائق على معلومات عن العبوة الناسفة التي أصابت دبابة قائد كتيبة المدرعات، العقيد غاي كيبلي، والتي احتوت على أكثر من 300 كيلوغرام من المواد المتفجرة.
وزير المواصلات شاؤول موفاز، الذي سبق أن شغل منصب وزير الدفاع الاسرائيلي قبل تسعة أسابيع من الحرب، لم يكن راضياً عمّا يجري. قرأ في أحد المواقع الاخبارية الالكترونية خبراً عن العملية في بنت جبيل. لم يعرف أنّ على الخطة أن تنتهي قبل مساء اليوم نفسه. قال موفاز في مكتبه لأحد من مستشاريه: «أشم رائحة تشير الى أنهم ينوون الدخول الى بنت جبيل». وتساءل موفاز المذهول: «ماذا لديهم ليفعلوا في بنت جبيل؟ قضيت عاماً في بنت جبيل عندما كنت قائد لواء المظليين وأنا أعرف جيداً هذا المكان»، مشدداً على أن «الجيش يحتاج إلى فرقتين على الأقل لاحتلالها»، ومشيراً إلى أنه «سيكون هناك الكثير من المصابين. لن يتخلصوا من هذا. يجب إيقافهم».
طلب موفاز من سكرتيرته أن تتصل بأولمرت. كان هاتف أولمرت مقفلاً. وبعد دقيقتين، اتصل مدير مكتب رئيس الوزراء يورام طوبوروفيتش (طوربو) بموفاز، الذي حذره من أن «الدخول الى المدينة سيكون خطأ». اتفق الاثنان على أن يلتقي موفاز وأولمرت في اليوم نفسه.
قيادة المنطقة الشمالية في الجيش الاسرائيلي كانت راضية، من ناحيتها، عما يجري وكانت واثقة من أنها «أكملت المهمة». في ذلك الحين، مر على الجنود ما يقارب 48 ساعة في «الاراضي المسيطرة» على بنت جبيل، ومن الممكن الاستمرار قدماً. وحظي قائد فرقة 91 غال هيرش بإطراءات قيادة المنطقة الشمالية، التي أبلغته: «كل الاحترام لك، هذا بالضبط ما خططنا له».
في ظهيرة اليوم نفسه، أعطيت أوامر للتراجع عند المساء، خلافاً لرأي هيرش الذي أراد احتلالاً لبنت جبيل. وبحسب رؤية قيادة المنطقة الشمالية للهجوم، كان من المفترض أن يسيطر لواء غولاني في المرحلة التالية على قرية الطيبة، وكان على المظليين التوجه الى رأس البياضة.

ومع ذلك، ظلت الفجوات القيادية بين قيادة المنطقة الشمالية، وهيئة الأركان، كما كانت. الخطط كانت تتغير في اللحظة الأخيرة، وما كان يسمّى «إنجازاً للمهمة» في عيون قادة المنطقة الشمالية، رآه نائب قائد هيئة الاركان موشيه كابلنسكي «عملية مترددة».
عاد كابلنسكي «بشعور صعب» من جولة في منطقة الفرقة 91. قال ان قيادة المنطقة الشمالية «لا يؤدّون المهمة ولم يوقعوا أسرى». وقد قدر كابلنسكي أن الخروج من بنت جبيل مع إنجازات فقط في الحد الادنى، وخصوصاً أن إسرائيل سوّقت العملية على أنها «عملية رمزية»، سيُعرض على أيدي حزب الله على أنه «انتصار للتنظيم».
كان رئيس شعبة الحملات في الجيش الاسرائيلي غادي آيزنكوت (قائد المنطقة الشمالية اليوم) شريكاً في الانتقاد. بالنسبة إليه، كانت عمليات المنطقة الشمالية «مخجلة». بعث الجيش الاسرائيلي الى بنت جبيل ألوية نظامية مختارة، غولاني والمظليين واللواء 7. عشرات الطائرات الحربية. ولكن الإنجاز العسكري اقتصر على بعض «المخربين القتلى».
تساءل آيزنكوت مستنكراً «لقد حصل آدم على كل ما يريده. قوات برية كبيرة ومعونة من سلاح الجو، لماذا إذاً لم يزوّدنا بالبضاعة».
فهم آدم أن هيئة الاركان العامة تنوي تعميق عملية بنت جبيل بدلاً من إعادة القوات. لكن لم تكن هناك أوامر. كان آدم مصمماً على إعادة القوات. قال «أنا لا أحب هذا». أراد تنفيذ الخطة التي وضعتها قيادة المنطقة الشمالية. وبناءً على ذلك، في الساعة السادسة مساءً، أمرت قيادة المنطقة الشمالية الفرقة 91 بقيادة هيرش بإخلاء مشارف بنت جبيل. وبحسب هذه الاوامر، أمر ايضاً قائدة الألوية يدعي ومردخاي، الجنود بالاستعداد للخروج والعودة الى الحدود الشمالية. كانت هناك أوامر بأن يحمل الجنود، مع المعدات، «جثثاً تابعة لمقاتلين من حزب الله من أجل عرضها على الإعلام».
حوالى السابعة مساءً، وعلى مقربة من جبل يشرف على بنت جبيل، وقف غال هيرش ليجري مقابلة مع الصحافيين. قال «لقد أحكمنا السيطرة على بنت جبيل. فجّرنا مراكز للتنصت. نحن نتحرك من بيت الى آخر. من زقاق الى آخر. والمخربون في ضائقة».
بدا هيرش، للمرة الأولى منذ اندلاع الحرب، مرتاحاً. أظهر ثقة بالنفس وكان مقتنعاً بأنَّ فصل بنت جبيل قد انتهى. بدوره، قال العقيد فريدمان، في مقابلة لإذاعة الجيش الاسرائيلي، «بنت جبيل في أيدينا». وأضاف «نحن مستمرون في هذه المهمة»، مشدداً على أن «القوات البرية قامت بعمل ممتاز وأحرزت إنجازات ممتازة خلال الساعات الـ24 الأخيرة».
في المقابل، أوضح الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله، خلال مقابلة تلفزيونية مسجلة في اليوم نفسه، «لا تصدقوا الحرب النفسية للعدو الصهيوني»، مشدداً على أن «العدو الصهيوني يقول، منذ اليوم الاول، إنه احتل بنت جبيل. ولكن حتى الآن، ما زالت بنت جبيل في أيدي المقاومة».
عندما كان غال هيرش يدلي بتصريحات إلى المراسلين العسكريين، أحصى قادة ألوية غولاني جنودهم من أجل العودة الى البلاد بالاضافة أيضاً إلى جثث المخربين التي جمعتها الكتيبة. كان الحديث يجري عن ثماني جثث. في ذلك الحين، وعندما كان الجنود مستعدين للخروج، تلقى آدم مكالمة على هاتفه السري. كان قائد هيئة الأركان دان حالوتس على الطرف الثاني. كان حالوتس قد سمع من هيئة الاركان العامة، قبل المكالمة، أن «تقهقر القوات الاسرائيلية من دون إنجاز سيكون مهيناً».
أمر حالوتس آدم: «توقف، أنتم لن تخرجوا من بنت جبيل». شعر آدم بأن السماء سقطت عليه، لكنه اضطر إلى العمل بسرعة. كان على الامر الجديد الذي وصل من هيئة الاركان العامة الانحدار الى كل المراتب في الجيش الاسرائيلي. اتصل آدم بهيرش لإبلاغه بالأوامر. كان هيرش يستقل سيارته الرباعية الدفع في أعقاب حديثه إلى الصحافيين.

دخل هيرش المقر الذي يملأه جنود الاحتياط. كان يركض ويصرخ «أوقفوهم، أوقفوهم. لن نخرج من بنت جبيل». عندها وصلت الاوامر الى لواءي المظليين وغولاني. كان الجنود الاسرائيليون يحملون المعدات على ظهورهم والتخبط في صفوفهم كان واضحاً. تصاعدت الاسئلة: هل سنحتل بنت جبيل؟ نحاصر المدينة؟ لكن لم يعرف أحد الإجابة عن هذين السؤالين.
اتصل العقيد يدعي الموجود على مقربة من بنت جبيل بجنوده. قال «أنا الآن لا أفهم، ولكن في هذه المرحلة تلقيت أوامر من اجل البقاء (في بنت جبيل)».
بعد ساعات من هذه الاوامر، اتضحت الصورة قليلاً. لكن ليست بشكل نهائي. ففي مكالمة إضافية، قال حالوتس لآدم «سنحتل بنت جبيل»، ما أثار حفيظة آدم الذي سأله بغضب: «ماذا تقصد عندما تقول نحتل بنت جبيل؟ أن نحتل كل بيت؟ كل بيت بعشر طبقات».
لم يرد حالوتس على تساؤلات آدم، الذي اتصل بغال هيرش وقال له «هم ليسوا طبيعيين». فرد عليه هيرش قائلاً «اسمع، هم على حق»، مضيفاً «أنا قلت طيلة الوقت إن الهجوم على بنت جبيل فقط أمر ليس ذا صلة». فرد آدم «على الرغم من أنَّ هناك أوامر بااحتلال بنت جبيل، لن نحتل. أنا أريد أن أهدم القصبة، وعلى الأقل 3 آلاف بيت قبل أن ندخل. سيستغرق هذا وقتاً. ومن بعدها تدخل أنت. الآن ضع خطة».
صادق آدم لهيرش على الدخول إلى المناطق المحيطة بالقصبة في بنت جبيل، ولكن ليس القصبة نفسها.
الساعة تقترب من منتصف ليل الثلاثاء ـــــ الأربعاء. اتصل رئيس الوزراء الاسرائيلي بوزير المواصلات شاؤول موفاز، الذي قال له: «لا تسمح لهم بالدخول الى بنت جبيل. هذه مدينة بكل ما تحمله من معنى. ستقع إصابات أثناء احتلالها ولن تحرز شيئاً».
كان موفاز قد سمع أيضاً من السكرتير العسكري لرئيس الحكومة، غادي شمني، عن نوايا الجيش الاسرائيلي احتلال الخيام في القطاع الشرقي.
وأضاف موفاز لأولمرت: «ليس للجيش ما يبحث عنه في الخيام أيضاً». عندها قال أولمرت إنه سيدرس الأمر مع الجيش.
الساعة الواحدة بعد منتصف الليل، اتصل شمني بموفاز وقال له: «رئيس الوزراء يريد أن تهدئ أعصابك. لن ندخل الى بنت جبيل ولا الخيام لأنَّ هناك ضباباً. لن تكون هناك عملية في بنت جبيل».
طلب موفاز من السكرتير العسكري أن يجلب الى لقائه مع أولمرت خريطة كبيرة لبنت جبيل كي يثبت لرئيس الوزراء الاسرائيلي «كم هي كبيرة ومكتظة هذه المدينة».
في تلك الاثناء، الساعة الثانية بعد منتصف الليل، بلغت القوات الاسرائيلية أوامر من غال هيرش: «تبديل البيوت التي يقبع فيها الجنود الإسرائيليون خشية رصدهم من قبل مقاتلي حزب الله، والتقدم بضع مئات من الأمتار». وكانت الكتيبة 51 أول من تقدمت.
كانت مهمة الوحدة «ج» في الكتيبة 51، احتلال ثلاثة بيوت. لكن في الحرب كما في الحرب. تعرقل كل شيء. واجه الجنود أبواباً حديدية موصدة للبيت الذي أرادوا البقاء فيه. كان الجنود في مأزق كبير والفجر يشق الظلام. شعروا بأنهم سينكشفون في المساحة المفتوحة. كانت الوحدة تضم الجنود وقائدهم عميحاي مرحافيا، ونائب قائد الوحدة أليكس شفارتسمان، ونائب قائد الكتيبة روعي كلاين. أطلقوا صاروخاً على الباب الموصد من أجل فتحه، فظهرت في وجوههم ثلاثة أشخاص. كانت الساعة في ذلك الوقت الرابعة وخمسين دقيقة.
رغم أن «الأشخاص الثلاثة» كانوا يرتدون ملابس الجيش الاسرائيلي، إلا أن الاسرائيليين فهموا أنهم «مخربون». أطلق افيتار كوهين (جينيجي) النار باتجاههم. وخلال وقت قصير، وفي قلب كرم زيتون، واجه الجنود الاسرائيليون جداراً لم يعرفوا عنه شيئاً. واندلعت مواجهات من جانبي الجدار استخدمت فيها القنابل. جرح الاسرائيلي «جينجي» وصرخ «ساعدوني أنا جريح». عندها أبلغ مرحافيا كلاين عن طريق جهاز الاتصال «هناك مواجهات، يطلقون النار علينا. هناك مصابون».
خرج روعي كلاين مع نائب قائد الوحدة شفارتسمان وأربعة جنود إضافيين لمساعدة مرحافيا وجنوده. وهذه القوة أيضاً فوجئت بمقاتلين من حزب الله. وفي تبادل لإطلاق النار، قتل شفارتسمان، وكلاين ومعهما جنديان، وأصيب آخر بجروح خطرة. ويقال إن روعي كلاين قفز نحو القنبلة المتجهة نحو الجنود وقتل وأنقذ حياة آخرين. وتحوّلت المواجهات في بنت جبيل الى صراع من أجل إخلاء الجرحى والقتلى. وبعد ساعة من مقتل عدد كبير من القوات الاسرائيلية على أيدي مقاتلي حزب الله، خرجت وحدة أخرى للوصول الى مرحافيا، بقيادة العقيد كاتس. اشتدت المواجهات عندما بدأ الجنود الاسرائيليون بإخلاء الجرحى. وجرح عدد منهم. كان مقاتلو حزب الله يمطرونهم بالرصاص كلما اقتربوا لتخليص الجرحى.
يوم الاربعاء الساعة التاسعة صباحاً، هدأت الأمور. أثبتت تلك الأمزجة أن الجنود الصغار من الرتب المنخفضة دفعوا بأنفسهم أخطاء القادة. وواصل الجيش الاسرائيلي إخلاء الجرحى والجثث من تلك المنطقة. ويظهر من خلال فيلم وثائقي سجّل ما جرى في بنت جبيل، «رحلة الحمالات»، كيف كان الجنود الاسرائيليون يحملون زملاءهم ويركضون تحت وابل النيران.
انتهى إخلاء الجرحى حوالى الساعة الواحدة ظهر الأربعاء. كانت تلك هي المرة الاولى التي تمنح فيها طائرات الإنقاذ تصريحاً للدخول الى الحدود اللبنانية. وقد هبطت خمس طائرات «بلاك هوك» (ينشوف) وعلى متنها جنود من وحدات الإنقاذ، 669، أخلوا الجرحى الى مستشفى رمبام في حيفا. كان الإخلاء «مخاطرة كبيرة». كانت الطائرة تهبط في كل مرة لمدة 60 ثانية فقط، تحمل الجنود الجرحى وتمضي، «كما في فيلم هوليوودي».
في تلك الاثناء، جلس يديعي وشاهد الصور التي بثتها طائرة من دون طيار؛ المواجهات والإصابات، والإخلاء. الأحياء والأموات. كل شيء اختلط بعضه ببعض. لم يفهموا من هم جنود وحدة غولاني ومن هم «المخربون». كان آدم قد انضمّ إليهم حوالى الساعة الثامنة من صبيحة اليوم نفسه. عندما بدأت الأنباء تصل عن القتلى، اتصل حالوتس بآدم. كانت نتائج الأوامر التي أعطاها قبل يوم واحد قد أصبحت واضحة. كان القتلى مثل الوقود الذي أشعل العلاقات بين الضابطين الكبيرين.
حاول حالوتس ألا يضغط على آدم بقوله «اهدأ، لا توقع نفسك تحت الضغط. في الحرب هناك مصابون». عندها رد عليه آدم «قائد الأركان، أتشعر بأني مضغوط، صحيح». وأضاف «أنا لست في حاجة الى التهدئة التي تمنحني إياها». في ذلك الحين، دخل قائد القوات البرية الى قيادة الخطوط الامامية في المنطقة الشمالية، وقال لهم «غولاني خرجوا من أوضاع أكثر صعوبة. وأنتم ستخرجون من هذا».




حدث في 14 تموز

كان الحدث الأبرز مساء 14 تموز إطلالة السيد حسن نصر الله التلفزيونية الأولى، بعد أقل من نصف ساعة من استهداف مقر الأمانة العامة في حارة حريك، ودعوته في رسالة صوتية إلى مشاهدة البارجة الحربية الإسرائيلية «التي اعتدت على البنية التحتية والمدنيين في العاصمة والضاحية وهي تحترق وتغرق».
هذه الدعوة مثّلت بداية المفاجآت التي كان قد وعد بها نصر الله، وقال مخاطباً الإسرائيليين «طالما أردتم حرباً مفتوحة، نحن ذاهبون الى الحرب المفتوحة ومستعدون لها على كل صعيد، إلى حيفا، وصدقوني إلى ما بعد حيفا والى ما بعد، بعد حيفا». يذكر أن المحطات التلفزيونية الإسرائيلية قطعت مؤتمراً صحافياً كان يعقده رئيس الأركان الإسرائيلي دان حلوتس، لتنقل رسالة السيّد نصر الله مباشرة عن «المنار».
على الصعيد السياسي، وبعكس الجلستين السابقتين لمجلس الوزراء اللبناني، بدأت الحكومة تتصرّف كأن حرباً تقع على أرضها وقررت اتخاذ سلسلة خطوات إجرائية لتلبية مقتضيات حالة الطوارئ التي يواجهها لبنان من شماله الى جنوبه. وفيما رفض مجلس الأمن طلب لبنان وقف إطلاق النار، استنكر الاتحاد الأوروبي العدوان الإسرائيلي معتبراً أن إسرائيل تتعامل بمبدأ «العين بعشرين عيناً».
أما عربياً، وبخلاف المواقف الرسمية، فقد بدأت التظاهرات المندّدة بالعدوان تعمّ الشارع العربي. فانطلقت تظاهرات في بغداد، عمّان، سوريا، الكويت. حتى غزّة التي كانت تتعرّض بدورها للاعتداءات الاسرائيلية خرجت إلى الشارع، كما هتف المصلّون في جامع الأزهر في القاهرة «أعلناها أعلناها، حزب الله يتولاها».




بيرتس كان «ضائعاً» وموفاز أراد احتلال صور

في الساعة الثامنة والنصف، بعد عملية بنت جبيل، كان شاوول موفاز في مكتب إيهود أولمرت في طابق الحكومة في الكنيست الإسرائيلي. لم يسمع الاثنان بما جرى الليلة الماضية في بنت جبيل. قال موفاز لأولمرت «لا تدخلوا بنت جبيل. سيكون هناك مصابون»، مشيراً الى الخريطة التي طلب من السكرتير العسكري تجهيزها. وأضاف موفاز لأولمرت «كل خمسة سنتيمترات هنا (على الخريطة) هي كيلومتر في الواقع». فسأله أولمرت «ما العمل إذاً؟».
ردّ موفاز: «إذا أردت عملية برية، اذهب في اتجاه صور. من هناك يقصفون حيفا».
سأل أولمرت سكرتيره العسكري عما إذا كان «هذا صحيحاً». فقال له «صحيح».
وأشار موفاز، مستفيداً من خرائط، إلى مسار الصواريخ، وقال إنها تطلق من «مشارف صور حتى جبال الكرمل»، موضحاً، بصوت غاضب، «إذا كنتم مصمّمين على الذهاب الى بنت جبيل، عليكم إحضار فرقة أخرى». وطالب أولمرت بإخراج الجنود من المدينة والدعوة الى اجتماع للمجلس الوزاري.
قال أولمرت إنه سيفحص الأمر. ومن بعدها ذهب الى اجتماع للجنة الخارجية والأمن في الكنيست. وخلال الجلسة، أعطى المستشار الإعلامي لرئيس الوزراء أسي سريب ورقةً لأولمرت. كانت الأنباء عن القتلى قد بدأت ترد، وإن متأخرة، لا الى أولمرت فقط، بل أيضاً الى مقر القيادة العسكرية العامة في تل أبيب، ومن هناك الى وزير الدفاع عامير بيرتس.
في الساعة العاشرة و45 دقيقة، أصدر الجيش الاسرائيلي بياناً جاء فيه أن لواء غولاني فقد 9 من جنوده، إلا أن حظر النشر استمر الى حين إبلاغ كل الأهالي.
لم يسمع وزير الدفاع الاسرائيلي شيئاً عن عدد القتلى ولا عن البيان الذي أصدره الجيش إلا في الساعة الحادية عشرة. وصلته المعلومات من عامير رابابورت، كاتب هذا التقرير، عندما التقاه للتباحث في آخر التطورات الميدانية.
عندها قال بيرتس لرابابورت «أنا لا أصدق، هل أنت متأكد؟ تسعة قتلى؟». وطلب من سكرتيره العسكري أن يفحص هذه القضية. ذهب السكرتير ليستفسر، وعاد وقال له إنه يملك معلومات عن «قتيل واحد» فقط. بيد أنه، بعد ربع ساعة، حصل على معلومات جديدة تؤكد أن القتلى أكثر من واحد بكثير. بدا وزير الدفاع «ضائعاً» في مكتبه الواسع، وكان يردّد «لماذا، لماذا يُقتلون؟».
اختار بيرتس ألا يعلّق على ما دار في بنت جبيل، لكنه قال لنا إنه لا يمكن أن يكون هناك وقف لإطلاق النار بعد حادثة كهذه: «لا يمكن الخروج الآن مع ذنب بين الأرجل، من دون احترام».
التعتيم على عدد المصابين في بنت جبيل قضّ مضاجع أهالي الجنود، وخصوصاً أن المواقع الإلكترونية لم تشِر هي أيضاً إلى أي رقم، ما أجبر أهالي الجنود على الاتصال بكل حدب وصوب لنيل معلومات أكثر عما جرى. كانت الفوضى عارمة أيضاً في غرف قيادة هيئة الأركان. ووصل عدد القتلى، بحسب الشائعات، في بعض الأحيان الى 30 قتيلاً.
ولكن حظر النشر أُزيل في ما بعد، وتبين أن عدد القتلى ثمانية. ولكن العدد لم يكن نهائياً لأن ضابطاً من المظليين قتل هو أيضاً على مقربة من بنت جبيل. ومرة أخرى تحدثت المواقع الإسرائيلية عن إصابات من دون أن تحصر العدد. وعادت حالة الهستيريا مرة أخرى.
شكلت المواجهات الخاسرة في بنت جبيل أحد الانقلابات الكبرى منذ قيام إسرائيل، ذلك أن مقتل تسعة جنود في معركة يختلف عن موت 9 مواطنين جراء إصابتهم بالكاتيوشا.
شعر نائب أودي آدم، أيال بن رؤوبين، أن لا اتصالات بين القيادة في الهيئة العامة وقيادة المنطقة الشمالية، وقال لآدم «أنت لست راضياً وهم ليسوا راضين. ادعُ حالوتس لنتحدث عن هذا». اقترح آدم الدعوة على حالوتس، فقبلها، ووصل الى مقر قيادة المنطقة الشمالية برفقة مساعده وقائد الحملات البرية بين غانتس، حوالى الساعة الواحدة، من أجل تسوية الأمور مع آدم.
قال بن رؤوبين لحالوتس «لديّ الكثير من الأمور الصعبة التي أريد أن أقولها لك. إذا كنت مستعداً لسماعي فسأقولها؟ وإذا لم تكن فسأخرج». كانت الأجواء تشير الى أن حالوتس يريد أن يسمع. تناول دفتر الملاحظات خاصته، وقال: «أنت لا تدير الحرب بالطريقة الصحيحة. هيئة الأركان تزيح الألوية من هنا الى هناك. ونحن في قيادة المنطقة الشمالية نفكر في استراتيجيا. ومن 5 ألوية في المنطقة الشمالية، أنهكنا ثلاثة حتى الآن، قبل أن تبدأ الحرب البرية ضد الكاتيوشا»، وأضاف «قتلى بنت جبيل عليك»، فردّ حالوتس «فهمت، لن نحاول احتلال بنت جبيل ثانية».... لكنه وعد ولم يفِ.