أنسي الحاج
يخجل المرء بنفسه عندما تعصف الأزمات الكبرى. يبدو كالمُذْنِب إنْ توَعّك، كالعديم الشعور إن بدت عليه معالم هَمّ ذاتيّ. مجتمعاتنا، في ظروف عاديّة بلا أزمات، لا تعبأ بالشخص وهمومه، فكيف بها في أحوال الشدّة؟
غالباً ما فكّرتُ بهَلَع وعار أنه لو كانت قضيّة لبنان شبيهة بالقضيّة «المقدّسة»، أي الفلسطينيّة، لما استطعتُ كتابة أغنية واحدة من وحيها. ربما بضع قصائد لا يفهمها أحد، ومقالات موسميّة نصفها الأسفل أسيرُ تلك الرطوبة الجوّانيّة.
من هذه الناحية، نحن سعداء بكون المشكلة اللبنانية غير «مقدّسة». ليس لبنان قضيّة عربيّة إلّا بقَدْر ارتداد أزماته على المحيط. لهذا سُلّم بامتنان إلى سوريا، واليوم إلى سكاكينه الذاتيّة. مع ما تَيسّر من «المساعدات». سعداء أنه ليس قضيّة «مقدّسة» حتّى يظلّ فينا حيّز ولو صغير للتنفّس. لو كان مقدَّساً لتحجَّر، مثل هذه الأمّة. الحمد للّه.
كيف للواحد أن يقول في الشأن العام إلّا الكلام العام؟ وهذا له أربابه من «عُراة القضايا» ملوك الغاب. أمّا الأدب فشأن متروك لطفيليّات الغابة.
ونرجو أن يبقى الأمر كذلك. للأقليّات امتيازات خَفيّة. والطفيليّات تتمتّع بحريّة شبه مُطْلَقة: كل شيء هو فوقها وتستطيع شَتْمَه، ولا شيء تَحْتها يستطيع شَتْمَها إلّا التراب. والتراب أرحب من الأمّهات.

... ويخجل المرء بموتٍ يموته، في الحروب والأزمات، إذا لم يكن استشهاداً أو بطولة. وإذا كان استشهاداً أو بطولة، عندئذٍ هو الموت يصبح نجماً وينسى الجميع «شخص» الفقيد.
لا محلّ في بحر المجازر لغير المواكبة. وتُوزَّع المهمّات: الشعراء للقبائل، الصحافيّون للخنادق، «المثقّفون» للشكوى من الجميع. لا مكان لغير الجنود. انقسِموا بعضكم على بعض ولكنْ لا ينسحبْ أحد منكم إلى زاويته! لا ذات هنا بل جنود. لا شخص هنا بل جيوش. لا خاص هنا بل عام.
الذات؟ هناك، في قارات البيض! قاراتنا نحن مخيّمات بدو أو لاجئين، كميونات جثث، مقابر جَماعيّة. حتّى حياتنا اليوميّة في عزّ ازدهار السلْم مقابر جماعيّة. أنتِ تريدين وَهْب ذاتكِ للتخفيف من آلام الناس؟ كيف لأحد أن يُخفّف من آلام أحد إذا كان ابن محيط لا يعترف بالإنسان؟ ابن مجتمع لم تُولَد فيه الذات؟ وهل خدمة المجموع إلّا السخاء المنطلق من تقديس الفرد؟

كان الماء يجتذب البشر فيعمّرون حوله. ثم جاء الذهب، أصفره وأسْوَده. اليوم دور «الحديقة السريّة»، الأماكن التي يستطيع الإنسان فيها أن يرعى حريّته الداخليّة، فضلاً عن حريّاته الأخرى. يجب أن لا يقال «حقوق الإنسان»، لم يعد لها وهجها، ويستبيحها مَن أراد تحت أيّ ستار كان وأحياناً دون تستّر. يجب أن يُقال «قدسيّة الذات»، «حقوق الحديقة السريّة»، الشخص، الشَجَن الشخصي، الألم، الفرح، الخوف، الصوت، الصوت، الصوت الشخصي.
أعظم دافع للهجرة هو هذا، لا الرغيف. لا أحد يُعْدَم رغيفاً. كلّنا في هذه الأمّة مجرَّدون من «الشخصي». كلّ شيء في هذه الأمّة، ويوماً أكثر من يوم، وإلى ما شاء الله، يحاصر «الشخصي» ويُرهبه ويدوسه.

ليعذرني القرّاء إذا قرأوني. أنا أقرأهم ولا داعيَ لأن يقرأوني. لا أنا من فتح الإسلام ولا من فتح المسيحيّة. ولا من شيء في هذه الأمّة، غير بضع كلمات من لغتها. أنا شخص أَشعلَ أناه حتّى ترمّدتْ. بين المصابيح لم يعد في متناولي غير ما لم يعد في متناولي. لا أحبّ الأدب الوطني ولا الأغنيات الوطنيّة. ولا الرجال الذين يُخيفون. ولا النساء الصعبات. أحبّكِ أنتِ أيّتها السَهْلة القليلة الكلام الناعمة، النائية وراء شفتيها القريبتين، أحبّكِ أنتِ الرخوةُ المناعة، كلمتي الأولى والأخيرة، يا ذات الباطنيّة الخاوية إلّا من حشود استيهاماتها الجنسيّة، أيّتها الملساء كالأفعى الرائعة التي كانت من قَبْلُ واقفةً كالمرأة، يا لؤلؤة موج الناظر، صاحبة الشَعْر الذي يُغري بالخطيئة بعد ارتكابها أكثر ممّا يغري قبل ارتكابها، أحبّكِ أنتِ.
أُصغي إليكِ لكي تَسْمعيني. أكتبُ عنكِ لكي أتلمّس شيئاً من روحي. البعض في عزلته يَسْتَحضر، لمَ لا أسمع صوتكِ؟

ما أكبر هذه الجبال! ما أضخم هذه الدماء! ما أشدّ هذه الأديان! ما أقوى هؤلاء الرجال! ما أَتفهني!...
عظيمة أنتِ أيتها القضايا التاريخيّة، حقير مثلي كلُّ مَنْ يَغْرَق في مرآته!
قيل لي مراراً: اخرجْ! اطلعْ!
حاولتُ ولم أنجح.
أنا من بقايا بورجوازيّة مُقْتَلَعة الجذور بلا ماضٍ ولا مستقبل. مستنقع صغير.
حال كثيرين، جَعَلَتْني الوحدة ألتمُّ على بعضي كالعتمة على الفراغ، مثلما جَعَلَتْني أحياناً أخرى أرمي نفسي على أهداف لا تريدني.
اليوم، وقد ضمّتني إلى جناحيها، كما يقول جبران، ضَمّ صاحبِ الحقّ، أضمُّها بدوري إلى قاموس المفردات التي كنتُ أعوم على سطوح معانيها وأنا أحسب أني غائصٌ فيها إلى الأعماق. أعترفُ، وقد نزلتُ المزيد من الأدراج صوب آخر القشرة الأرضيّة، بأن الوحدة التي كتبتُ عنها في الماضي لم تكن أكثر من لفظة...

ابتداءً من هذه القنطرة، هنا، تزول الحدود. لا تدخلْ إنْ لم تكن مصمّماً على الضَياع. لَمْ ترَ الدمعة في عين أبيك فهل يليق بعينك أن تَدْمع؟ ذوو الوجوه الناعمة ينبغي أن تكون عيونهم جافّة. هذا هو منطق الغيظ! منطق هذا البحر الصحراوي الذي هو روحك، الذي هو دينك، الذي هو بلادك وأمّ بلادك! من أين أنت؟ الهواء هو الأصل وأنتَ تبحث في التراب. الهواء هو الله وأنت تقرأ في الكتب. الهواء الهواء، لا دَرَّ دَرُّكَ. خارج الهواء تنفصل المرأة عن حلمها. ماذا يبقى إذا انفصلتِ المرأة عن حلمك بها؟ تعود، أنت وآباؤك وأجدادك، تعودون جبابرة، جماجم تأكل جماجم على دروب البطش والرجولة. لولا ذلك الحلم الأبله، لهوى الفَلَك الذي في رأسك إلى حذائك. كلّ شيءٍ مربوط بالبخار! فَتَحَ الصيّاد القمقم فخرج من القمقم عفريت. العفريتُ الدخانُ الأسود العالي برجُ الأبراج. اقرأ. اكتبْ. اسمعْ. امشِ. اقعدْ. اقتلْ. اهربْ. إذا حُفظ الخبز في رطوبةٍ علاه العَفَن. بحرف الألف: إن أسأتُ إليكِ أرجو العفو. هو العفريت الذي يَسكنني ويخرّب فرصي. وأنتِ، مَن أنتِ؟ جهاتي الأربع... كم واحدة أنتِ؟ لا تَفرّي، لا يُفَرُّ أمام السَمَكَة! انظري إلي، انظري إليّ بأيّ عينين تريدين، فقط انظري إليّ قبل أن تنامي.