الدورة ــ رندلى جبور
سريره حافة تحت جسر الدورة في المتن الساحلي، وخزانته كيس يملأه بزجاجات الكحول الفارغة ليبيعها ويشتري الممتلئة منها، ومطبخه قطعتا «بسكويت» و«ربطة خبز». أما رفاقه فكحوليون مثله يشحذون اللقمة والكحول في المنطقة ذاتها لكنّ الفرق بينه وبينهم، بحسب خالد هو أنهم لبنانيون لديهم منازل يعودون إليها ليلاً، فيما هو يسكن بين أعمدة الجسر ليلاً نهاراً.
قصة خالد الكحولي الأردني بدأت في عام 1992 حين ترك الأردن عبر الحدود الأردنية ـــــ السورية، ثم توجه إلى لبنان «لأنّهم قالوا له إنّ هذا البلد جميل»، وهو يؤكد أنّه سعيد في حياته هذه ويشرب الكحول «لكي يتمكن من النوم» ويرفض الكلام عن سني حياته قبل الـ1992.
لم يكن واضحاً في البداية ما إذا كان خالد رجلاً أو امرأة إلاّ أنّ أحد العمال أكد أنّه رجل وينادونه «خالد»، والثابت أيضاً هو أن هذا الرجل فاقد لقوته وقدرته على التركيز إذ لا يمكن أن ترى عينيه ثابتتين على نقطة معينة، وصوته مهما علا لا يتجاوز حدود إمكان سماعه.
يعلّق خالد صليباً في رقبته ويشير إلى أنه مسيحي ويفخر بالأوشام التي تملأ يديه، لافتاً إلى أنّها ترافقه منذ زمن طويل ورسمها بواسطة «الإبر»، أما ثيابه فلا يبدلها إلا نادراً، ولا يلجأ إلى أي وسيلة للاستحمام أو النظافة.
يشير خالد إلى أنه لا أقارب له في لبنان، ولا يعرف أي شيء عن أهله في الأردن ولا يفكر حتى في العودة إلى بلاده «لأن هون الحياة حلوة».
لا بدّ من أنّ المارة تحت جسر الدورة، سائقين كانوا أو مشاة، ألفوا وجه خالد، ومن يراقبه يراه يتكلم مع «لا أحد»، وكثيراً ما يستخدم يديه ليرسم إشارات غير واضحة وتتبدّل تعابير وجهه مرات عدة في وقت ضيّق، فترتسم ملامح الخوف حيناً والابتسامة المطمئنّة حيناً آخر، على الرغم من إصراره على أنّه «مبسوط كتير بحياتو».
لا أوراق ثبوتية ولا إقامة ولا أي دليل يشير إلى تفاصيل ضرورية لهذا الرجل الذي يشير شكله إلى أنه في العقد الرابع من عمره. لكن يبدو أنّ خمسة عشر عاماً في لبنان لم تكن كافية للتأكد من هويته والتعامل الجدّي معه لتفهّم ظروفه وجعله واحداً من اللاجئين العاديين مثلاً، فأدى الإهمال المتراكم من الأفراد والمجموعات الخاصة والعامة، الداخلية والخارجية، إلى جعل خالد شبه إنسان لا عمل لديه إلا التسوّل وتناول الكحول، ولا منزل إلا فيء الجسر، ولا عائلة إلا رفاقه في الضياع، ولا من يسأل إلا بعض الأقلام الصحافية التي تفتش عن مادة اجتماعية سياسية تشفي بها غزارة الحبر.