جوان فرشخ بجالي
عام 2002 «اكتشف» صيادون قطعاً أثـريـة متناثرة من سفينة غارقة في بحر صور، وقام بعضهم بنهبها، وتبيّن أنها أول سفينة فينيقية يعثر عليها في المياه اللبنانية. ويحاول اليوم الطاقم العلمي إلاسباني ــ اللبناني إنقاذها من شباكهم لإتمام دراسة علمية مفصلة

قبل آلاف السنين كانت صور مدينة فينيقية، ركب أبناؤها البحر نحو ضفاف أخرى ليؤسسوا مستعمرات عبر المتوسط. لذلك نجد أثار صور منتشرة اليوم على اليابسة وفي عمق البحار، فمن البديهي ألا تكون كل السفن المحملة بالبضائع قد وصلت إلى مرافئها سالمة. ثمة سفن غرقت قبل آلاف السنين لا تزال تحوي في زواياها قطعاً فنية ثمينة. والبحث عن إحدى تلك السفن الغارقة أمام شواطئ صور كان هدف البعثة الإسبانية ـــــ اللبنانية التي قامت بعمليات تنقيب إنقاذية لتحديد مكان المركب، بين الأول من حزيران والأول من تموز 2007.
يعود تاريخ السفينة الفينيقية الغارقة إلى القرنين الرابع والسادس قبل الميلاد، وقد عثر صيادون عام 2002 على آثار لها أو على آثار عن حمولتها، فبدأوا عملية نهب واسعة الإطار للآثار الغارقة فيها. قام بعضهم بالغطس، مخاطرين بحياتهم، ليعثروا على تماثيل آلهة الخصوبة المحمّلة على متن السفينة الفينيقية، وذلك بهدف بيعها في الأسواق. بين عامي 2002 و2003 «غرق» سوق الآثار اللبناني بهذه التماثيل المستخرجة من السفينة. استمرت عملية النهب وراح ضحيتها أحد الصيادين، فقد أراد الغطس إلى السفينة وتوفي بعدما قفز بدقائق.
تدخلت القوى الأمنية والجيش للحد من نهب الإرث الوطني، وحفاظاً على سلامة المواطنين. ومُنع الصيادون من التوجه نحو المركب الغارق، لكن يبدو أن الطمع أقوى من الخوف من المحاسبة القانونية. فقد انخفضت عمليات سرقة السفينة، لكنها لم تتوقف نهائياً.
الجانب «الإيجابي» الوحيد من عمليات السرقة هو أنها أشاعت خبر اكتشاف السفينة لتتناقله الألسن، ويصل أخيراً إلى آذان العاملين في الأوساط العلمية، فتقدم فريق إسباني متخصص بالحفريات تحت الماء بطلب إلى المديرية العامة للآثار في لبنان للبحث عن السفينة الغارقة، هذا الفريق التابع لمعهد الآثار البحرية في جامعة إشبيلية، عرض أيضاً تمويل عمله العلمي، فوافقت المديرية، ويمثلها الآن مسؤول الآثار البحرية إبراهيم نور الدين الذي يشرف على طلاب الآثار الراغبين بالتخصص في الحفريات تحت الماء.
يتحدث إبراهيم نور الدين عن النتائج العلمية التي توصلت إليها البعثة، فيقول: «إن هذه هي حتماً سفينة شحن يتراوح طولها بين 30 و40 متراً وكانت محملة بتماثيل لآلهة الخصوبة من مختلف الأحجام، وببعض الجرار». وبحسب الدراسة الأولية التي قام بها اختصاصي الفخار عبد الله علاء الدين، فتلك التماثيل هي على الأرجح محلية الصنع. أما عن مصدر السفينة، فيقول نور الدين «إن الحفريات التي أجريت هذه السنة لا تكفي لمعرفة إن كانت آتية من عكا باتجاه صور، أو من صيدا باتجاه عكا، أو بكل بساطة كانت صورية أبحرت، لكنها لم تبتعد إلا خمسة كيلومترات عن الشاطئ ثم غرقت». لكن ما حدده العلماء هو أن تلك السفينة لم تغرق بسرعة، بل «نازعت» على طول مئات الأمتار، فتأرجحت يساراً ويميناً بسبب الأعاصير، ووقعت التحف لتستقر في قعر البحر، وحاول طاقم السفينة إنقاذها، لكن محاولاتهم لم تجد نفعاً، فغاصت بالبحر بأقل من ساعتين، واستقرت على عمق 35 متراً. وقد حدد العلماء طريقة الغرق هذه من تناثر القطع الأثرية في كعب البحر على طول مئات الأمتار. وفي هذا الإطار يقول إبراهيم نور الدين: «عثرنا على القطع العليا وعلى مماسك جرار سمحت لنا بتحديد عمر السفينة، وعثرنا على بعضٍ من قطع تماثيل لآلهة الخصوبة، وكانت كلها متناثرة». أما بالنسبة إلى مكان السفينة، فلم يُحدد بشكل دقيق بعد، ويشرح نور الدين: «إن ذلك يتطلب القيام بإسبارات أثرية، يحدد بعدها مكان السفينة وحجمها ووجهتها وشكلها...»، وهذا ما تنوي البعثة القيام به ابتداءً من السنة المقبلة.
ففي أيلول 2008، سيتوجه الفريق من جديد إلى موقع السفينة بحثاً عن أنقاضها. لكن لكي يتوصل هؤلاء العلماء إلى نتائج ملموسة جديدة بالنسبة إلى تاريخ السفينة وعبرها للبنان ككل، وخاصة أنها السفينة الفينيقية الأولى التي يعثر على آثار منها، فمن الضروري جداً حماية الموقع. فالصيادون لا يزالون يترصدون هذا المعلم التاريخي، وهم يدركون أن محبي التماثيل الفينيقة يدفعون المبالغ الطائلة لاقتنائها.
لكن عملية النهب هذه تشكل خطراً عليهم. فهم يغطسون بطرق بدائية. ينزل أحدهم بمفرده بحثاً عن القطع، وينافي ذلك المبادئ الأولية للغطس السليم التي تتطلب دائماً أن يقوم بعملية الغطس اثنان. هذا بالإضافة إلى أن الصياد لا يملك من العدة إلا أنبوباً يطلق عليه اسم «النارجيلة»، وهو موصول بمحرك لضخ الهواء يسميه «الكومبرسور». ويشرح نور الدين «أن نوعية الهواء تختلف بحسب عمق المياه، وقد يصبح الهواء مضراً بالجسم». أما الصيادون فلا يدرون بذلك، ويغطسون من دون اعتماد أية وقاية. والأسوأ من ذلك أن وزارة الزراعة رخصت لهم استعمال هذه التقنية لاصطياد الأسماك الكبيرة. وهم بالفعل يصطادونها، مستخدمين «الديناميت». ويؤكد نور الدين أنهم كانوا يشعرون بارتجاجاتها كل يوم تقريباً. فإن منعت وزارة الزراعة الغطس «بالكومبرسور» فهي ستحمي الثروة السمكية والثروة الأثرية، وقد تنقذ السفينة الفينيقية من شباكهم.