جوزف سماحة
«ثورة الأرز» هجينة. تآلفت فيها تيارات لها سياسيوها وبرامجها ودعاتها ومثقفوها. تآلفت ولم تتوحد. لذلك لم يكن ثمة مجال للحديث عن لحظة تأسيسية، وذلك بغض النظر عن عفوية جمهور كبير من المشاركين في الانتفاضة أو، ربما، بسبب هذه العفوية.
يمكن أن نميّز، ضمن «خطوط» ما سمّي «ثورة الأرز» خطين:
يؤكد الأول أنه لم يكن لها لتحصل لولا الدعم الغربي، والأميركي تحديداً، الذي قرر رفض «الشراكة» مع سوريا في لبنان. يقول أصحاب هذا الرأي إن الرعاية الغربية جيدة ومرغوبة. ويرون فيها قراراً استراتيجياً برؤية لبنان في ذاته، والاتجاه نحو تحييده عن صراعات المنطقة، ودفعه نحو الاستقلال والاستقرار والديموقراطية. ويستندون الى المهل المعطاة للأكثرية الجديدة من أجل أن تحلّ المشاكل الداخلية بنفسها بما فيها تلك العالقة من القرار 1559. جوهر هذه الأطروحة أن لبنان بند مستقل على جدول الاعمال الأميركي، ومن واجب اللبنانيين اقتناص الفرصة.
يتعمد «الخط الثاني» تغييب الدور الأميركي تماماً. الانتفاضة، في رأي أصحاب هذا الخط، لبنانية خالصة. وهي تعبّر عن تذمرات من العروبة التي فرضتها سوريا قسراً على لبنان واتخذت بعداً أمنياً مخابراتياً صارخاً. إن «ثورة الأرز»، بهذا المعنى، فعل ديموقراطي أصيل يمثل إسهاماً لبنانياً في نهوض عروبة جديدة تضيف الديموقراطية الى هموم النهضة القومية المرتجاة. تصبّ هذه الثورة في المجرى العام للمقاومة العربية التنويرية وترفد، بهذا المعنى، نضال الشعب الفلسطيني وغيره.
ثم كان ما كان. وتوفرت قبله قرائن على خطل هاذين الخطين. استمرت المكابرة الى أن حصل العدوان (وصولاً الى قانا) ليؤكد أن الحرب، في عمقها، أميركية بقدر ما هي إسرائيلية، وربما أكثر مما هي إسرائيلية.
الخطان المشار إليهما خطآن. يبدوان متوازيين شكلاً لكنهما يلتقيان عند سوء التقدير نفسه: يتجاهلان العلاقة الأميركية ـــــ الاسرائيلية في طورها الجديد وانعكاس ذلك على تطورات الإقليم كلها بما في ذلك لبنان.
من تبنّى الخط الأول يعيش فجيعة. لقد أوكلت أميركا لبنان الى إسرائيل. يعني ذلك أنها لا تقيم حساباً لحيّز لبناني مستقل. لم تؤدّ «ثورة الأرز» الأميركية الى اكتساب لبنان موقعاً خاصاً في حسابات واشنطن.
من تبنى الخط الثاني مصدوم. كان يعتقد أنه ثائر على الاستبداد من أجل توفير شروط أفضل للمعركة الوطنية والديموقراطية. هاله أن «حلفاءه» في مزاج آخر وأنه مجرد أداة في استراتيجية تتجاوزه ولا يتحكم بمفاصلها ولا يسمح له بترف التمايز ضمن التحالف. يكتشف، اليوم، مثاليته التي استخدمت غطاءً في عملية سياسية هي، في ذهن المسؤولين عنها أجانب ولبنانيين، مناقضة تماماً لأطروحات «العروبيين الديموقراطيين الجدد».
يملك أصحاب «الخط الأول» فضيلة التماسك. سينتظرون جلاء المعركة لتجديد الانخراط في رهان سابق وفق معطيات يراد إيجادها. وفي المقابل يبدو أن الميالين الى وجهة النظر الثانية قادرون على الخروج من الورطة لأنهم لم ينسفوا نهائياً جسور العودة. يبقى أن المطلوب منهم امتلاك الجرأة الأدبية الكافية لمراجعة تجربة السنتين الماضيتين بعدما تأكد أن مشروعية التذمرات سبقت في وجهة جعلت كلام الحق في خدمة الباطل.

31 تموز 2006