strong>مهى زراقط
يصعب على علي صفيّ الدين أن يتذكر المجزرة التي وقعت في مبنى الدفاع المدني في صور. شعوره الكبير بالذنب يسيطر على كلّ ما عداه، حتى على حزنه على طفلته لين التي توفيت بين يديه وهو يحاول إيصالها إلى مستشفى غسان حمّود في صيدا.
علي، المتطوّع في الدفاع المدني، ضرب زوجته نادين صباح 16 تموز، وأجبرها على أن تأتي هي وابنتها معه إلى المركز الذي قصف بعد الظهر.
ـــــ ضربتها فعلاً؟
«إيه.. إيه ضربتها»، يقول وهو يحتضن رأسه بين يديه. يهدأ قليلاً ثم يشرح: «كنت أريد أن أطمئن إليهما، أن يكونا قربي، وخصوصاً أني منذ اندلاع الحرب لم أتمكن من رؤيتهما».
الشوق هو السبب الذي دفع علي إلى نقل عائلته، رغم ذلك لا يسامح نفسه «نفسيتي بالأرض منذ ذلك اليوم. أصيبت زوجتي بجراح ولا تزال تعالج إلى اليوم، أتحمّل حزنها وغضبها».
زوجته نادين لم تفقد طفلتها لين فحسب، بل والدتها عليّة منصور وابنة خالها سالي وهبة، واحترق جسد شقيقتها نور (9 سنوات). أما هي فخسرت عينها، وكانت مهددة ببتر يدها، فيما شوّهت الحروق أجزاء مختلفة من جسدها.
لهذا يبدو مقنعاً إصرار نادين، أو عنادها، على عدم الإدلاء بأي حديث «لا أحكي مع الإعلام» تقول بحدّة. والد زوجها كان محتدّاً مثلها، لكنه جلس وراح يروي ما حلّ بالعائلة. يستطرد في شرح تفاصيل معاناة زوجة ابنه مع جروحها وحسرتها على فقدان طفلتها.
«اكتبي عن لين»، تقول نادين أخيراً. هذا الأمر الوحيد الذي تعتقد أنه يستحق الاهتمام والمتابعة «كنت أتمنى لو أني متّ عوضاً عنها» تقول. تتوالى الجمل المشابهة على لسانها فلا تعود «كليشيهات» اعتدنا سماعها، تتذكر أنها التقت والدة شهيدين من المقاومة «قالت لي الله يصبرك، ابناي اختارا طريقهماأما ابنتك فلم تحظ بفرصة الحياة لتعرف ما تريده منها».
نادين حامل اليوم وتنتظر طفلة ستسميها نور أيضاً، لكن هذا لا يخفف حزنها. توافق زوجها على السماح لنا بالتقاط صورة لهما معاً وهي تقود سيارة، لكنه لا ينجح في إقناعها بالحديث معنا.
يعتذر عنها ويطلب منا تفهمها، هو يعرف أنها لم تتجاوز حزنها بعد. هذا الحزن الذي ولد في 16 تموز ولا يزال يكبر، يومها: «كنت جالساً خارج المبنى مع مجموعة من الشباب. جاءت فتاة تخبرنا أن السيد حسن سوف يتحدّث، دخلنا إلى المبنى لنتابع الكلمة، وما إن وضعت جسدي على الكرسي حتى وقعت المجزرة».
نجا علي من الإصابة. يتذكر أنه عندما استعاد وعيه ووجد الركام محيطاً به فكّر بالاتصال بالدفاع المدني «نسيت أني أنا من يجب الاتصال به في لحظة مماثلة». لكن نجاته من الإصابة لم تمنعه من التفكير في كيفية الخروج من المكان «نجونا من الركام، لكني اعتقدت أننا سنموت اختناقاً لولا أن زميلي راح يصرخ: نور... نور... ضَو».
هكذا خرج إلى الشارع الذي قضى فيه كثيرون نحبهم بسبب تساقط ركام المبنى، سارع إلى البحث عن ابنته وزوجته «أول شخص طلع بوجي كان زهراء ابنة عمي» يتذكر. بعدها وجد طفلته لين وكانت لا تزال حية، سلّمها إلى شقيقه وراح يبحث عن نادين إلى أن وجدها وحملها بين يديه.
نقلت الطفلة إلى مستشفى جبل عامل ونادين إلى مستشفى نجم. قيل لعلي إنه لا علاج لحروق الطفلة ونصحوه بنقلها إلى مستشفى غسان حمود لأن في المستشفى قالوا له إنهم لا يستطيعون معالجتها، وهذا ما حاول القيام به، لكنها ماتت على الطريق.
بقيت زوجته التي أنقذها والده من بتر يدها «سمعها ترجو الطبيب أن لا يبتر يدها فطلب منه ألا يفعل، لكن حالتها كانت صعبة كثيراً ولم يكن ممكناً علاجها في صور. الوساطات أوصلت علي إلى مجدليون، وهناك حظي بفرصة تسفير زوجته إلى الأردن للعلاج على نفقة النائبة بهية الحريري.
«سافرت معها وبقيت قربها أخدمها. لم أنهر لحظة واحدة» يقول بتأثر ويستعيد تلك المرحلة: «أنا أيضاً تعذّبت، كنت وحدي عندما توفيت طفلتي بين يديّ، صبرت على معاناتي ولا أزال. لكنني أقسم إني عندما عدت إلى نفسي شكرت الله على أن طفلتي التي استشهدت وليس أي شاب من شباب الدفاع المدني. ابنتي الله بيرزقني غيرها».
يعني علي ما يقوله، نبرة صوته وحرقته تؤكدان صدقه، إضافة إلى طيبة قلبه حين «يستكثر» على نفسه «المكافأة» التي حظي بها: «وظّفوني في الدفاع المدني بعد الذي حصل لي، علماً بأني لم أعمل كل الحرب. أنا سافرت مع زوجتي لكن زملائي تعبوا كثيراً».
أخفى علي عن نادين خلال شهر كامل في الأردن حقيقة وفاة ابنتها وأمها «أخبرتها في الطائرة في طريق العودة. صارت تصرخ وتبكي، كان مشهداً صعباً لا أنساه إلى اليوم».
أهل نادين كانوا موجودين معها في المبنى، وعلي أيضاً هو من استدعاهم. يقول والد زوجته هادي السمرة: «غادرت البيت لأشتري بعض اللوازم، وعندما عدت لم أجداً في البيت، علمت أن صهري أخذهم إلى بناية الدفاع المدني، وبعد نصف ساعة وقع الانفجار».
يبعد البيت مسافة خمس دقائق عن مكان المجزرة. عند وقوع الانفجار سارع السمرة للبحث عن أفراد عائلته، وبقي أكثر من خمس ساعات يفتش بين الركام، في المستشفيات «من مستشفى إلى مستشفى، وعلمت عند الحادية عشرة ليلاً أن زوجتي توفيت، فيما أصيبت ابنتي نور بحروق من الدرجة الثالثة. سافرت إلى ليتوانيا للعلاج على نفقة السيدة نازك الحريري». ولم تعلم نور خبر وفاة والدتها إلا بعد ثلاثة أشهر. «تأثرت كثيراً، وخصوصاً أنها فقدت أيضاً ابنة خالها سالي، فقد كانت متعلقة بها كثيراً». تقول الشقيقة الكبرى التي كانت في بيروت خلال الحرب: «أصرّت سالي على أن تبقى عندنا في صور، علماً بأن أهلها يقيمون في بيروت، كانت تريد الذهاب إلى البحر».
أما زهراء (19 عاماً)، التي تناقلت صورتها وشقيقها علي مختلف وسائل الإعلام، فقد عرفت بوفاة والدتها في المستشفى، «كان هناك صحافي أجنبي يسأل عن إصابتي وما تعرّضنا له، وسمعت الممرضة تقول له بالإنكليزية إن أمي ماتت فانهرت وغبت عن الوعي».
زهراء لم تصب بأذى في المجزرة. عندما التقيناها كانت عائدة من الجامعة بعدما خضعت لامتحان السنة الجامعية الأولى «وقعت الحرب قبل أن نفرح بنجاحنا في الامتحانات الرسمية» تقول وهي تتذكر أنها فقدت صديقات لها في الحرب، كما خسرت حلمها بدراسة الإعلام «كلية الإعلام في بيروت، بعد وفاة أمي لم يعد بإمكاني مغادرة البيت، لذلك انتسبت إلى كلية الآداب في صيدا». لا تطيل زهراء حديثها معنا «الوقت يتأخر، وأنا لم أحضّر الغداء بعد» تقول مبتسمة. ابتسامة جميلة تزيّن وجهها وتؤكد استمرار الحياة.