عرفات حجازي
أنهى اللقاء الحواري اللبناني أعماله مساء أمس في سان كلو كما كان متوقعاً بكسر الجليد السياسي وإعادة ترميم جسور الثقة بين المتحاورين، فتحدثوا بصراحة ووضوح عن رؤاهم وهواجسهم ورؤيتهم للحلول، وعكست نقاشاتهم الجادة والمعمّقة نيات طيبة وأجواء مشجعة للتفاهم والالتقاء، بعد تشخيص نقاط التوافق والتقاطع في المفاهيم الأساسية، والتمسك باحترام الدستور ونصوصه، والاحتكام إلى الطائف مرجعيةً ناظمة لعلاقات الأطراف والتوازنات التي أرساها لإصلاح النظام وإعادة بناء الدولة، والتشديد على مبدأي السيادة والعيش المشترك، والانفتاح على مقاربة قانون الانتخاب، والتسليم بالديموقراطية التوافقية والشراكة الوطنية في اتخاذ القرارات التي تعني مستقبل البلد وديمومته، والموافقة على تأليف حكومة وطنية تهيئ الأجواء لإنجاز الاستحقاق الدستوري في موعده، وتنفيذ ما اتُّخذ من مقررات في مؤتمر الحوار الوطني، وتطبيق القرار 1701، وهي نقاط أساسية تكوِّن أساساً صلباً يمكن البناء عليها لصياغة تفاهمات وحلول تخرج الوضع من مآزقه وأزماته.
ويقول المتابعون لسير المناقشات إن الدينامية السياسية التي فتحها الحوار أسست بداية مقاربة جديدة للتعاطي مع الأزمة بعدما نجحت الدبلوماسية الفرنسية من خلال دورها الوسيط وتصويبها لمسارات البحث على دفع المتحاورين إلى إبداء مرونة لافتة وتجاوب سريع مع الرغبة الفرنسية في تقديم تنازلات متبادلة تشجع على استكمال الحوار على مستوى قيادات الصف الأول في بيروت، لإنتاج حلول توافقية، ويمكن اختصارها بإعادة تحريك العمل في المؤسسات الدستورية، وبخاصة العمل الحكومي والنيابي بعد إجراء التعديلات الضرورية على الحكومة لجهة توسيعها وتأمين التوازن والمشاركة التي تفضي إلى استعادة مناخات الثقة وتؤمن المداخل لمناقشة جميع القضايا الخلافية، بما فيها موضوع الرئاسة الأولى مع ضبط الخلافات تحت سقف منع الانفجار.
وإذا كان مؤتمر باريس لم يسفر عن حلول، فلأن ظروف انعقاده والمشاركين فيه لا تسمح بذلك، ولأن الفرنسيين أنفسهم لا يطمحون إلى أكثر من إعادة وصل خيوط الحوار، من دون أن يلغي ذلك إمكان احتفاظهم في ضوء الخلاصات التي انتهى إليها اجتماع سان كلو بأفكار لإدارة المرحلة التي تلي ذلك. وستوضع تلك الأفكار في عهدة الأمين العام للجامعة العربية، علّها تسعفه في إنجاح المبادرة العربية التي يعتقد الفرنسيون أن مسعاهم لا يتعارض معها. وكما عمرو موسى، كذلك الرئيس نبيه بري، كلاهما ينتظران قراءة التوصيات والخلاصات وتقويمها ليبنى في ضوئها التحرك المقبل وتُحَدَّد وجهته.
فالرئيس بري الذي تابع من عين التينة لقاءات الحوار، وكان يتلقى تباعاً سير نقاشاتها، أبدى ارتياحه للأفق الذي فُتح، وهو استناداً إلى إلمامه ببواطن الأمور وعدم قطع صلته بالجهود العربية والإقليمية والدولية لن يتوانى عن الإمساك بطرف الخيط الفرنسي ودعوة عمرو موسى إلى بيروت ليكمل ما بدأه، لأن ثمة علامات بأن الجميع توّاقون إلى إحداث انفراجات، ولا أحد يريد أن يسجّل على نفسه إعاقة الحل وإبقاء البلد في دائرة الضياع، مشيراً إلى أن الحل للمشكلة القائمة بسيط، وهو الاحتكام إلى الدستور والالتزام بنصوصه وأعرافه، وعليه لا بد من تصحيح وضع الحكومة فتعود الحياة السياسية إلى طبيعتها ثم انتخاب رئيس جديد للجمهورية على قاعدة نصاب الثلثين، وهذا يعني التوافق، وليس هناك من حل آخر، مشدداً على أن أي دولة أو جهة تحرّض فريق الموالاة على انتخاب رئيس بدون التفاهم مع المعارضة إنما تقدم وصفة تؤدي إلى تدمير البلد وإطاحة كل مرتكزاته وعيشه المشترك، لافتاً إلى أن التوافق على الرئيس المقبل سيشكل الممر والمدخل الصحيح للخروج من أزماتنا السياسية والأمنية والدستورية انطلاقاً من مسلّمة أن الرئيس الجديد الذي سيأتي بإجماع أو شبه إجماع ستكون له اليد المطلقة لتشكيل أول حكومة لعهده كما حصل مع العماد اميل لحود في أول حكومة اختار أن تكون حكومة تكنوقراط برئاسة الرئيس سليم الحص ولم تعترض القوى السياسية على هذا التوجه، فالكل مشى في خيار الرئيس وسلّفه فرصة لتنفيذ وعوده. من هنا إصرار بري على الوفاق والتفاهم على الاستحقاق الرئاسي وعدم خرق الدستور، وحتى إذا لم يقل الدستور بنصاب الثلثين فالمصلحة الوطنية تقتضي تعديله لأن نصاب الثلثين يدفع إلى التفاهم والتنازلات المتبادلة، وهذا أرقى درجات الديموقراطية.
ويرد بري على الذين يأخذون عليه تفاؤله المستمر: «هل يريدون مني أن أطالعهم كل يوم بأوراق نعي للبلد؟ أنا من المؤمنين بأن الجو التفاؤلي أحد عناصر الحل، والترويج لليأس يضفي المزيد من التعقيدات على الوضع المأزوم»، مذكّراً بأنه بادر قبل شهرين أو أكثر إلى تعيين جلسة انتخاب رئيس الجمهورية «لأقول للقاصي والداني إن هذه بوابة الحل، وهيأت نفسي للحراك وأنا مجنّد الآن وأهيئ الظروف والمناخات لفتح المسالك وتسهيل عمليات الكولسة، وعندما رفضت قيام حكومة ثانية قبل استنفاد كل الوسائل السياسية والدستورية كنت على يقين بأن أبواب التسوية لم تغلق بعد، ونصحت بعدم حرق المراحل والتزام التريث والهدوء، وقد جاراني في ذلك قادة المعارضة، فالكل يعرف أنني شيخ المعارضة لهذه الحكومة ولنهجها المدمّر، لكن عندما تصل الأمور إلى الانقسام وتهديد مستقبل البلد ووحدة أبنائه، فأنا شيخ الموالين، وحذار أن يخطئ أحد في فهم موقفي، فوحدة لبنان خط أحمر وأنا الذي أقسمت على ذلك وراء الإمام المغيّب موسى الصدر وسأقاتل بشراسة لحفظ وحدة لبنان وعيش أبنائه المشترك».