strong> فاتن الحاج
العاشرة وعشر دقائق مساء الأحد 16 تموز، الطائرات الإسرائيلية تغير على بلدة شحيم ـــــ منطقة الشميس.
خرج سمير عبد الله إلى المكان يستطلع ما حدث. أدار محرّك سيارته وهَمَّ بنقل منيفة شعبان (70 عاماً) بعد إصابتها بشظية وزوجة ابنها ماجدة وعاملتها السريلانكية إلى المستشفى. لكنّ الغارة الثانية كانت لهم بالمرصاد، فاستشهد سمير ومنيفة والعاملة السيريلانكية، وأصيبت ماجدة بجروح بالغة في رجلها لا تزال تعاني منها حتى اليوم.
في هذه الأثناء كان أحمد الشامي عائداً من المكان بعدما أطفأ مولّده الكهربائي، وقد وضع في سيارته (من نوع «rapid» محرّك «ديزل»، فتسبّبت الغارة بإحراقه من دون أن يقوى أحد على إنقاذه. يقول أحد الشهود: «رأيته يحترق ولم أستطع أن أفعل شيئاً».
أما اليوم فقد فيصحّ القول «استشهد سمير مرتين، المرة الأولى حين اغتالته إسرائيل، والمرة الثانية حين لم يلتفت أحد إلى عائلته وهو الأب لخمسة أطفال». بهذه العبارة تختصر وردة زوجة سمير معاناة أسرة ذنبُها أنّها اختارت المقاومة طريقاً لها، وتهمة ابنها البكر محمد (17 عاماً) أنّه قال «فدا السيّد» على إحدى شاشات التلفزة.
تعود وردة بالذاكرة لتروي كيف آثر سمير الشهادة على البقاء مع أطفاله. تصمت قليلاً وتحاول أن تحبس دموعها، ثم تسرد حكايتها: «الأحد 16 تموز تردّد أنّ اسرائيل ستقصف هوائيات محطة المنار (عمود المنار) في منطقة ديدبة في بلدة داريا المشرفة على شحيم، الأمر الذي دفع الأهالي إلى ترك منازلهم تخوفاً من إصابتهم بأي أذى. في اليوم نفسه، كان سمير ينوي الذهاب إلى سوريا حيث يعمل سائق فان، لكنني رجوته ألا يذهب إذ إن الطريق غير آمنة. فهو كان يخشى على العمال السوريين ويحتاط لأمرهم بعد الهجمة الكبيرة عليهم، وشاءت الظروف أن يُرجئ سفره إلى صباح الاثنين». وتستدرك وردة قائلةً: «أصلاً سمير كان في سوريا وعاد الجمعة 14 تموز وفي حوزته عش البلبل (من الحلويات)، وما إن أخبرته ما فعلت المقاومة بالبارجة الحربية الاسرائيلية حتى طار فرحاً ووزّع الحلوى على الجيران».
الثامنة والنصف من مساء الأحد، تقول وردة، أمضى سمير سهرته «عند جارنا شكيب الذي كان يستعدّ لمغادرة منزله، بعد شيوع خبر استهداف عمود المنار، وبعد يومٍ لم يتوقف فيه أزيز طائرات الاستطلاع». سأل شكيب سمير إذا كان سيخرج مع عائلته من المنطقة، فأجابه بالقول: «كيف بدك تهرب والشهادة جايي ع نص بيتك، أنا بدي استشهد ببيتي».
لم يشرب سمير الشاي عند جاره بحجة أنّ «وردة والأولاد ناطرينّي بالبيت». وصل إلى منزله، جلس مع أسرته قليلاً قبل أن تقع الغارة الأولى. في تلك اللحظات تشتتت العائلة وأصابها الإرباك، فتاهت وردة بين أولادها، بعدما راح أحدهم يبكي وبلع آخر لسانه من هول الصدمة. تتمتم وردة «صوت رهيب ما بنساه». أما سمير فظنّ أنّ النيران تشتعل في المعهد المهني الذي كان يؤوي عائلات نازحة. استعدّ للخروج إلى مكان الغارة. وقف على عتبة المنزل متوجهاً إلى زوجته قائلاً: «انتبهي يا وردة ع الأولاد ولا تدعيهم يخرجون، فإسرائيل لا تكتفي بضربة واحدة، ثم إنكم محميون في بيتكم، أما الناس في المعهد فيحتاجون إلى مساعدتنا».
خرج سمير ولم تعد وردة تعرف عنه شيئاً، إلى أنّ اتصلت بها شقيقته عند الحادية عشرة والنصف، تقول لها إنّ سمير أصيب في رجله و«هو ينتظرنا على «مفرق» البلدة». لم تصدّق وردة «الخبرية» وخصوصاً بعدما صرخ ابنها محمد: «سيارة بيي مفجّمة»، وعاشت وردة لحظات قاسية، إلى أن جاءها أخوها في الثالثة فجراً بالخبر اليقين: «أنتِ امرأة مؤمنة، وسمير في وضع خطر وقد يأتيك أحد بخبر استشهاده في أية لحظة». نُقل سمير إلى المستشفى المركزي في مزبود، ومنه إلى المقبرة. أما وردة فلا تزال تشعر بأنّه «سيأتي يوم ويفتح فيه سمير الباب».
بالعودة إلى المجزرة، تقول الرواية إنّ الطائرات الاسرائيلية كانت تستهدف شاحنات متوقفة في المكان تعود لبعض الأشخاص من منطقة شحيم، وهي تقوم بنقل خارجي من الأقطار العربية لبعض مواد البناء والمواد الغذائية، ويحكى أنّها كانت خالية من أية حمولة في تلك الأثناء. وفي التفاصيل التي نقلتها إحدى شاشات التلفزة، خلال إجرائها مقابلات مع طيارين إسرائيليين، أنّ إحدى الجنديات الاسرائيليات (24عاماً) كُلفت بضربة شحيم، وأفرغت حمولتها في المحاولة الثالثة، بعدما اصطدمت في المحاولة الأولى بتجمّع بشري بسبب زفاف أحد سكان المحلة. وقامت الجندية الاسرائيلية بمحاولة ثانية في فترة بعض الظهر، غير أنّها فشلت في مسعاها، بعدما وجدت أطفالاً يلعبون بالكرة، بالقرب من الشاحنات. وكانت الثالثة ثابتة حيث استهدف القصف ساحة الشميس بغارتين متتاليتين تفصل بينهما سبع دقائق، الأمر الذي أدى إلى تهديم بعض الأبنية المحيطة واحتراق عدد من الشاحنات والسيارات.
يتحدث أحد الأصدقاء عن مساعي سمير، في اليوم نفسه، لإرسال مجموعة من الشباب باتجاه طريق الساحل لمراقبة الشواطئ، بعدما تبلّغ وجود الزوارق الاسرائيلية. يتابع الصديق: «كان الشهيد يتمتع بإباء وكبرياء وعنفوان ويأبى إلاّ أن يكون في الموقع النضالي، ولم يكن ممن يرتهنون بمال أو يباعون ويُشرون، وهذا الإرث الفكري الملتزم أورثه زوجته التي ترفض اليوم أن يُنظر إليها نظرة استعطاف، في وقت تخلى فيه الكثيرون عن مسؤولياتهم تجاه عائلة فقدت معيلها». والسبب الوحيد أنّ وردة وأولادها يتعاطفون مع المقاومة وليسوا من تيارها السياسي. أما وردة، وإن كانت تشعر بالغربة في بيتها، كما قالت، فلن تغيّر مبدأها «لأنّ زوجي كان لونو هيك وأنا ما تفاجأت، لأنو لازم يموت هيك شهيد، وبضلّ فخورة فيه رغم كل الظروف».
وردة ستمضي في هذا الطريق المقاوم، لكنّها تنتظر التفاتة من «المقاومين» على قاعدة «العتب على قد الأمل»، فهل من يستجيب؟