strong>تشير هذه الوثيقة التي أعدّها معهد رؤوت الإسرائيلي للدارسات الاستراتيجية إلى عدم موضوعية النظرية الأمنية لإسرائيل وإلى الحاجة المستعجلة لتحديث هذه النظرية وترجمتها إلى سياسات مغطّاة بالموارد السياسية الداخلية، وبالسياسة الخارجية، الاقتصادية والعسكرية. ننشر هنا الجزء الأول من الدراسة، على أن يتبعه جزء ثانٍ غداً
عام 2006 أصيبت إسرائيل بثلاثة إخفاقات سياسية وعسكرية، عبر تجميد خطة الانطواء في الضفة وعدم نجاحها في غزة ولبنان. هذه النتائج كشفت عن أزمة في النظرية الأمنية القومية لإسرائيل.
تسير إسرائيل كما لو أنها تتحرك باتجاه ضمان مستقبلها كدولة يهودية ديموقراطية عبر إنهاء سيطرتها على السكان الفلسطينيين وإنشاء دولة فلسطينية على أساس مبدأ «دولتين لشعبين». وحسب الظاهر تقوم بتنفيذ هذه العملية استناداً إلى القوة الإسرائيلية.
عملياً، هناك اتجاهات قوية قوّضت بعض مبادئ النظرية الأمنية القومية لإسرائيل. أولاً، تبلورت استراتيجية تهدف إلى الوصول لتدمير إسرائيل «من الداخل»، سواء عبر مواصلة السيطرة على الفلسطينيين في غزة والضفة، أو إخفاقات الولايات المتحدة في المنطقة والهجوم على اللوبي الإسرائيلي في الولايات المتحدة، وصعود مكانة إيران ومعارضتها لإسرائيل ونجاعة الوسائل التي تستخدمها في خدمة هذه الفكرة.
هذه الاتجاهات أدخلت إسرائيل في وضع استراتيجي دوني على المستوى الأمني القومي، الأمر الذي زاد من تراكم الإخفاقات المتكررة، من الخطوات السياسية إلى العسكرية الهادفة إلى تركيز وجود إسرائيل دولةً يهودية ديموقراطية. في الوقت نفسه، من المحتمل أن تتبلور وقائع تدفع إلى إنشاء دولة عربية فلسطينية إسلامية موحّدة مكان دولة إسرائيل.
هدف هذه الدراسة الإشارة إلى عدم صلاحية النظرية الأمنية القومية لإسرائيل والحاجة الملحّة لتحديثها وترجمتها إلى سياسات مدعومة بموارد سياسية داخلية، خارجية، اقتصادية وعسكرية. عدم الصلاحية هذه لن تحصل على جواب من لجان التحقيق التي أنشئت في أعقاب الحرب في لبنان.
يمكن أن نضع إجراءات في صلب التغيير المطلوب في النظرية الأمنية القومية مثل إنشاء دولة فلسطينية ضمن حدود مؤقتة، مسار سياسي إزاء سوريا أو عملية عسكرية ناجحة ضد إيران.
ضعف الحكومة الإسرائيلية هو مشكلة أساسية بنيوية، مما يثقل على إسرائيل خلال مواجهة التحدي الذي يواجهها. فترات الحكم القصيرة، وعدم الاستقرار، والتصدع في الجهاز التشريعي والتنفيذي، كلها أمور تزيد من صعوبة بلورة سياسات طويلة المدى وتنفيذها. وذلك في مقابل الاستقرار الكبير في القيادة الإيرانية ومنظومة المقاومة ضد إسرائيل والأسلوب المنهجي الذي يدفعون فيه أهدافهم قدماً.
في عام 2006 فشلت إسرائيل ثلاث مرات في تحقيق أهدافها السياسية الأمنية، أولاً كان الانطواء أداة أساسية للحكومة الحالية لضمان مستقبل إسرائيل. الحرب في لبنان وإطلاق صواريخ «القسام» أديا إلى رفع الانطواء عملياً عن جدول الأعمال. وفشلت إسرائيل أيضاً على حلبتين مختلفتين (غزة ولبنان) في تحقيق أهدافها السياسية والعسكرية، رغم تفوقها العسكري الحاسم على خصومها.
هذه النتائج، من جانب، خلقت فجوات بين العقيدة الأمنية (التي تنسب إلى المؤسسة الأمنية) والنظرية الأمنية القومية (التي تنسب إلى جميع الجهات الأمنية) التابعة لإسرائيل، وبين الاتجاهات التي تتكون من حولنا، في جانب آخر.
ترتكز تصرفات إسرائيل على نظرية أساسها:
أولاً، إن إنهاء السيطرة على الفلسطينيين ضروري لضمان مستقبل إسرائيلبصفتها دولة يهودية، هذا التوجه مقبول من اغلب الجمهور الإسرائيلي ومتبنّى لدى اغلب الأحزاب الصهيونية. السجال السياسي هو حول مسألة تكوين العملية السياسية، هدفها وطابع إجرائها.
ثانياً، الفلسطينيون يريدون إنهاء الاحتلال وإنشاء دولة فلسطينية. إن هدف الصراع القومي الفلسطيني هو الوصول إلى الاستقلال عبر إنشاء دولة فلسطينية في الضفة وغزة. بعضهم يرى هذا الهدف نهائياً، فيما البعض الآخر يراه حجراً أساساً في «خطة المراحل» للقضاء على إسرائيل.
ثالثاً، دولتان لشعبين على أساس «أفكار كلينتون»، مبدأ دولتين لشعبين هو الأساس لاتفاق سياسي مع الفلسطينيين، وافق عليه المجتمع الدولي، الدول العربية وإسرائيل. مسودة الاتفاق الدائم ترتكز، بشكل رسمي أو غير رسمي، على «مبادئ كلينتون».
رابعاً، الجيش الإسرائيلي يضمن وجود إسرائيل، فإسرائيل، بواسطة الجيش الإسرائيلي، هي قوة عسكرية قوية في الشرق الأوسط. نجح الجيش الإسرائيلي في تحقيق تفوق عسكري على جميع خصوم إسرائيل. من هنا قوة الجيش الإسرائيلي تضمن وجود دولة إسرائيل.
خامساً، الإرهاب ليس مشكلة كيانية. رغم الهجمات الإرهابية المتواصلة، فإن أهمية الهجمات ليست كيانية. بفضل الجيش الإسرائيلي والشاباك، ظل عدد المصابين محدوداً واقتصاد الدولة لم يصب بشكل خطير.
سادساً، المنطق العسكري يقود الأمور. استناداً إلى قوة الجيش، تنظر إسرائيل إلى العنصر العسكري بصفته عاملاً أساسياً في نظريتها الأمنية القومية ونقطة ارتكاز لأي خطوة استراتيجية. ونتيجة لذلك، ليس لإسرائيل أحياناً جدول أعمال سياسي حقيقي مدعوم بالنواحي السياسية، الاقتصادية أو العسكرية.
اكثر من ذلك، هناك فجوة ضخمة في حجم استثمار إسرائيل بالأدوات العسكرية وبين استثمارها بالأدوات السياسية، الاقتصادية أو بالسياسة الداخلية.
سابعاً، الولايات المتحدة، القوى العظمى الوحيدة، تربطها بإسرائيل علاقات خاصة. الحلف بين الولايات المتحدة وإسرائيل مستقر ويرتكز على مصالح وقيم مشتركة، أيضاً مثل قوة اللوبي المؤيد لإسرائيل والجالية اليهودية في الولايات المتحدة.
ثامناً، الدمج بين قوة إسرائيل العسكرية والاقتصادية والحلف مع الولايات المتحدة يضع إسرائيل في موقف قوي تجاه دول المنطقة.
تاسعاً، التهديد الوجودي العسكري لإسرائيل ناتج من سعي إيران لتصفيتها. المشروع النووي الإيراني هو عنصر أساسي في عملية بناء القوة العظمى الإيرانية، ولذلك يجب وقفه.
عاشراً، إسرائيل لا تعطي أهمية كبيرة لانعكاسات تركيبة الحكم على قدرة مواجهة تحدياتها الأمنية القومية.
جوهر الإخفاقات في لبنان وغزة «تكتيكي». عمليات التحقيق التي بدأت بعد الحرب في لبنان تركز على نظرية استخدام الجيش وعلى الإخفاقات ضمن الإطار الاستخباري، اللوجيستي أو القيادة والسيطرة. لذلك، المشاكل على المستوى الاستراتيجي للأمن القومي الإسرائيلي لا تدرس بانتظام.
عملياً هناك اتجاهات تتشكل تؤدي إلى تقويض الفرضية الأساسية إلى حد جعلها غير موضوعية.
منظومة المقاومة تهديد من نوع جديد، فمصطلح «منظومة المقاومة» يتطرق إلى عدد كبير من اللاعبين، من مختلف الأنواع والأهداف، والعلاقة بينهم يربطها تعاون على نحو تقاطعي والتزامي لمحاربة إسرائيل. وهدف الصراع بالنسبة إلى بعضهم هو التدمير العسكري لإسرائيل أو تصفيتها سياسياً من خلال سلبها حق الوجود.
الفكرة التي تنتظم منظومة المقاومة سياسية ـــــ داخلية وهدفها الوصول إلى تدمير إسرائيل من الداخل. وذلك على شاكلة جنوب أفريقيا والاتحاد السوفياتي، اللذين انهارا نتيجة الضغوط السياسية الداخلية والاجتماعية والضغط الاقتصادي الدولي.
المنطق العسكري لمنظومة المقاومة ثانوي. منظومة المقاومة تعترف بالتفوق العسكري الحالي لإسرائيل. لذلك تمتنع قدر الإمكان عن التصادم العسكري المباشر. في المقابل، منظومة المقاومة تعمل من اجل منع إسرائيل من القيام بأي حسم عسكري أو إنجاز سياسي فعال عبر حرب العصابات.
مواصلة «الاحتلال» تسرع في انهيار إسرائيل، فمنظومة المقاومة لا تريد «إنهاء الاحتلال» لأنها تدرك أن إنهاء السيطرة على الفلسطينيين هو شأن وجودي لإسرائيل واستمرار السيطرة يسرع عملية انهيارها من الداخل.
لذلك، إنهاء السيطرة على الفلسطينيين وتحويله إلى صراع «حدودي» عبر إنشاء دولة فلسطينية بحدود مؤقتة هو تهديد استراتيجي لمنظومة المقاومة لأنها قد تتضرر في شرعية مواصلة الصراع مع إسرائيل.
العقيدة القتالية لإسرائيل وسياسات تفعيل الجيش ظهرا بلا جدوى في أعقاب الحرب في لبنان. لجنة مريدور وضعت علامات استفهام على مصطلحات مثل «إنذار»، «ردع»، «انتصار»، «نقل الحرب إلى أرض العدو» وأمور أخرى. أكثر من ذلك، التآكل في مكانة حكومات الدول المجاورة، وخاصة في لبنان والسلطة الفلسطينية، يجعل عناصر أساسية في سياسات تفعيل قوة الجيش الإسرائيلي عقيمة.

(غداً حلقة ثانية)

معهد رؤوت الإسرائيلي للدارسات الاستراتيجية
(كانون الثاني 2007)

العنوان الأصلي:
النظرية الأمنية القومية لإسرائيل غير ذات صلة