نقولا ناصيف
في انتظار عودة السفير السابق والرئيس السابق للإدارة العامة للأمن الخارجي جان كلود كوسران إلى بيروت، في زيارة ثالثة، يكتفي الوسط السياسي اللبناني بتقويم نتائج أعمال مؤتمر الحوار الوطني في سان كلو، السبت والأحد الفائتين. وإلى الآن لم يتحدّد موعد عودة كوسران ولا برنامج مهمته الجديدة، وإن كانت أوساط وثيقة الصلة تدرجها في إطار متابعة نتائج الحوار اللبناني والتحضير للزيارة الثانية التي سيقوم بها وزير الخارجية الفرنسي برنار كوشنير لبيروت نهاية هذا الشهر.
واستناداً إلى الأوساط الوثيقة الصلة بمؤتمر سان كلو، فقد أفضى هذا إلى نتائج إيجابية قد يكون أبرزها:
1 ـــــ نجاح الدبلوماسية الفرنسية في تحقيق اختراق جدي في الحوار اللبناني المقطوع من خلال مبادرة لم تتوخَ بالنسبة إلى الكي دورسيه أكثر من إعادة بعث الحرارة في الاتصال بين الأفرقاء اللبنانيين المتناحرين. لم يكن في جدول أعمال الوساطة الفرنسية إصدار بيان ختامي بالمداولات، ولا تأليف لجنة متابعة من المشاركين في الحوار لأن هذه، تبعاً للأوساط نفسها، هي مهمة اللبنانيين. ولا توقعت الوساطة الفرنسية توصّل طرفي النزاع إلى اتفاق في الملفين الشائكين، وهما انتخابات رئاسة الجمهورية وتأليف حكومة وحدة وطنية. إلا أن المرحلة التالية لمؤتمر سان كلو، تضيف هذه الأوساط، تبدو في أهمية الاجتماع نفسه هناك لجهة إبقاء قنوات الاتصال مفتوحة وإن على نحو غير مباشر، وتجنيب الطرفين العودة إلى السجال المتشنج. وهو فحوى وضع هذا الملف في عهدة كوسران بغية تحديد دينامية ناشطة للحوار.
2 ـــــ انتبه العرّاب الفرنسي إلى قاسم مشترك جمع بين الأفرقاء المتحاورين من خلال المداولات التي أصغى إليها، وهو تلاقيهم بلا تحفظ على أمرين متلازمين: تمسكهما باتفاق الطائف وتأييدهما المطلق للجيش اللبناني. وعنى ذلك بالنسبة إلى الفرنسيين سقوط جانب من السجال والاتهامات المتبادلة بين فريقي الموالاة والمعارضة حول تأييد هذا الفريق اتفاق الطائف واتهام الآخر له بنقضه، كذلك الأمر حيال التجاذب السياسي حول خطوط حمر تعترض دور الجيش في المواجهة القاسية التي يخوضها في نهر البارد ضد تنظيم «فتح الإسلام». وهكذا لمس الفرنسيون قاعدة رئيسية يجتمع عليها اللبنانيون لا تجعلهم يتباعدون جوهرياً، مقدار لمسهم حجم الاختلاف والانقسام على موضوعي الاستحقاق الرئاسي وحكومة الوحدة الوطنية.
3 ـــــ الوضوح غير المسبوق في موقف باريس، أكثر من أي وقت مضى، حيال حزب الله الذي عبّرت عنه الرئاسة الفرنسية في 10 تموز عشية انعقاد مؤتمر سان كلو، والذي رمت منه إلى تبديد غموض كان قد طبع هذا الموقف عبر نعتها الحزب بأنه تنظيم إرهابي. ورغم الإيضاح الرئاسي كان هذا الموقف في صلب حوار تبادله عشية المغادرة إلى باريس مسؤول العلاقات الدولية في حزب الله السيد نواف الموسوي مع الدبلوماسية الفرنسية في بيروت، إذ استفسر من محدثه عن الغموض في دوافع الموقف الفرنسي حين يرى الحزب تنظيماً إرهابياً وفي الوقت نفسه يدعوه رسمياً إلى العاصمة الفرنسية. كذلك استفسر عن صحة ما أشيع عن احتمال استقبال الرئيس نيكولا ساركوزي أعضاء معيّنين من المشاركين في مؤتمر سان كلو، وقيل كذلك عن احتمال تحديد موعد لاستقبال رئيس تيار «المستقبل» النائب سعد الحريري في الإليزيه، على هامش أعمال مؤتمر الحوار اللبناني.
كان جواب الدبلوماسية الفرنسية أن الرئيس، في موقفه المتقدم من حزب الله، أعلن أن فرنسا لم تدرج اسمه على اللائحة الأوروبية للمنظمات الإرهابية، وتبعاً لذلك لا تعتبره منظمة إرهابية ما دامت تصفه بأنه قوة سياسية لبنانية مهمة تسير في طريق العمل السياسي، ولا تعتزم مستقبلاً إدراج اسمه في اللائحة الأوروبية. إلا أن الجواب الدبلوماسي الفرنسي ظل محوطاً بما سمّاه المجيب «الغموض البنّاء» الذي يريد أن يقول الحقيقة من غير أن يكشفها كلها. أما الشق الثاني من الجواب الفرنسي فهو أن الرئيس لم يدرج في برنامجه مذ أعدت باريس لمؤتمر سان كلو استقبال أي من المشاركين فيه فرادى أو جماعات. على أن معلومات دبلوماسية تتقاطع مع ما تذكره الأوساط الوثيقة الصلة بمؤتمر سان كلو تشير إلى أن الحكومة الفرنسية واجهت بدورها ضغوطاً سياسية حادة من الجالية اليهودية لحملها على منع استقبال وفد حزب الله على الأراضي الفرنسية.
4 ـــــ شق الطريق أمام علاقات رسمية مباشرة بين الإدارة الفرنسية وحزب الله التي اقتصرت حتى الأمس القريب على قناة واحدة بين السفير في بيروت برنار إيمييه والموسوي، المفوض رسمياً من حزبه إدارة علاقاته بفرنسا. وما خلا لقاءات كانت قد جمعت في أوقات متفاوتة إيمييه بوزير الحزب محمد فنيش قبل أن يستقيل من حكومة الرئيس فؤاد السنيورة، ظلت علاقات باريس بحزب الله محدودة القناة وإن متشعبة الحوار والملفات. إلا أنها المرة الأولى التي يزور فيها وفد حزبي رفيع العاصمة الفرنسية بدعوة رسمية وسط غموض يشوب الموقف بينهما، ويستقبله مسؤول رئيسي هو وزير الخارجية، مع أن وزير الحزب الآخر طراد حمادة كان قد استُقبل في باريس وواشنطن بصفته صديقاً لحزب الله لا عضواً فيه. وتالياً، يعكس هذا التطور في التصرّف الفرنسي تمييزاً ظاهرياً على الأقل عن السياسة التي اتبعها الرئيس السابق جاك شيراك حيال بعض الأفرقاء اللبنانيين. على أن العرّاب الفرنسي الجديد أراد إبراز قدرة خاصة ومستقلة، تقول الأوساط الوثيقة الصلة ذاتها، على الانفتاح على جميع القوى اللبنانية بلا استثناء، دون تخلّيه في المقابل عن تأييد حكومة السنيورة ما دامت هي الحكومة الشرعية اللبنانية.
5 ـــــ الإشارة المستجدة التي لفت إليها كوشنير في مؤتمره الصحافي يوم الأحد عندما لم يستبعد الحوار مع سوريا، من غير أن يجزم بحصوله قريباً. وهو موقف يعبّر عن رغبة الكي دورسيه في توسيع هامش تفاعلها مع اللاعبين الإقليميين الفاعلين في لبنان ولا سيما مع دمشق بعد زيارتين قام بهما كوسران لطهران. وبحسب الأوساط نفسها، فإن باريس التي تراجعت عن فتح حوار مع دمشق كان قد رجّحه ساركوزي في قمة الثماني في حزيران الفائت، لم تتهم سوريا باغتيال النائب وليد عيدو، وهو الحادث الذي حمل الرئيس الفرنسي على تأجيل حوار كان سيحصل معها. بل جارت باريس معظم الانتقادات الدولية التي وُجهت إلى دمشق لمسؤوليتها عن زعزعة الاستقرار في لبنان. وهي إن كانت ترى أن الوقت لا يزال مبكراً لمباشرة الحوار الجدي مع العاصمة السورية، فالواضح أن السباق الذي يخوضه العرّاب الفرنسي الجديد مع الاستحقاق الرئاسي اللبناني ـــــ وهو استحقاق إقليمي كذلك ـــــ يجعله يعوّل على الوقت وعلى تجاوز بعض التحفّظات من أجل إنضاج التسوية.