strong>تشير هذه الوثيقة التي أعدّها معهد رؤوت الإسرائيلي للدارسات الاستراتيجية إلى عدم موضوعية النظرية الأمنية لإسرائيل وإلى الحاجة المستعجلة لتحديث هذه النظرية وترجمتها إلى سياسات مغطّاة بالموارد السياسية الداخلية، وبالسياسة الخارجية، الاقتصادية والعسكرية. ننشر هنا الحلقة الثانية من هذه الدراسة بعد أن كنّا قد نشرنا أمس الحلقة الأولى منها
تعمل لجان التحقيق التي أنشئت في أعقاب حرب لبنان على تحديث سياسات تفعيل الجيش، ومن المفترض إحداث تغيير في هذه العناصر.
صورة الولايات المتحدة ضعفت، واللوبي الإسرائيلي يخضع لهجوم. فالولايات المتحدة في ضائقة استراتيجية في أرجاء الشرق الأوسط نتيجة فشل مشروع إدخال «الديموقراطية» والمصاعب في محاربة الإرهاب. نتيجة ذلك، أثير سجال جماهيري لإعادة دراسة المصالح الأميركية في المنطقة، حيث من المحتمل أن يؤدي إلى تباعد كبير جداً بين مصالح الولايات المتحدة ومصالح إسرائيل وإلى التباين بينهما. بالإضافة إلى ذلك، تآكل نهائياً مركز الولايات المتحدة وسيطاً أميناً لدى الطرفين في الصراع الإسرائيلي ـــــ العربي.
التآكل في مركز الولايات المتحدة في المنطقة انعكس على مركز إسرائيل وعلى الشكل الذي ينظر به إليها خصومها.
في المقابل، اللوبي المؤيد لإسرائيل والجالية اليهودية تحت وطأة هجوم يتحدى ولاءهم الأولي للولايات المتحدة. فهم متهمون بوضع مصالح إسرائيل قبل مصالح الولايات المتحدة. وهكذا يجري تقديم الحرب في العراق والقيام بعملية عسكرية محتملة على إيران كما لو أنهما يخدمان إسرائيل اكثر من الولايات المتحدة.
وجدت إسرائيل نفسها في دونية استراتيجية على مستوى الأمن القومي. مدلول هذه الدونية هو أن احتمالات فشل إسرائيل في المواجهات الاستراتيجية المتوقعة مع المقاومة قد زايدت.
ربما ما زال التحدي أمامنا. فتعزيز السيطرة الإيرانية ومنظومة المقاومة، من جانب، والتراجع في مكانة الولايات المتحدة وحلفائها المعتدلين في المنطقة، من جانب آخر، لم يصلا إلى الذروة بعد.
على سبيل المثال، من المحتمل أن تحصل إيران على السلاح النووي وأن تزيد من تأثيرها في المنطقة، وأن تخرج الولايات المتحدة من العراق على نحو يضر بمكانة حلفائها. كذلك من المحتمل أن تتخذ سوريا خطوات عسكرية أو سياسية لتقويض الوضع الراهن. حكومة السنيورة ممكن أن تسقط وأن يسيطر حزب الله على لبنان. حكومة السلطة الفلسطينية قد تنهار وقد تخسر فتح الانتخابات. ومن المحتمل أن يقوض الاستقرار في الأردن ومصر.
لجان التحقيق التي عُينت في أعقاب حرب لبنان تهتم بالمشاكل «التقنية» أو بتلك الأمنية وطرق استخدام الجيش. ليس بينها من يعطي جواباً على التراجع الاستراتيجي لإسرائيل من ناحية الامن القومي.
اكثر من ذلك، فرص نجاح العقيدة الأمنية لإسرائيل تتآكل ما دامت النظرية الأمنية القومية غير فعالة.
إن التفوق العسكري لا يعني التفوق الاستراتيجي. أي، تستطيع إسرائيل أن تستفيد من تفوقها العسكري على أي حلبة على حدة، لكن لديها دونية استراتيجية مقابل تفوّق استراتيجية خصومها وقدرتهم على دمج قواهم.
مواجهة تحدي منظومة المقاومة تستلزم التعاون بين مختلف الوحدات. مقابل ذلك، أسلوب الحكم في إسرائيل يتميز بعدم الاستقرار وبفترات الحكم القصيرة من خلال الانشقاق بين الجهازين التشريعي والتنفيذي. لذلك، هناك فجوة بين خاصية التحدي الذي يواجه إسرائيل وأدوات الحكم.
مع الوقت ستجد إسرائيل صعوبة اكبر في إنهاء سيطرتها على الفلسطينيين لأن القوات العربية (الفلسطينية، الإسلامية) التي تعمل ضد إنهاء الاحتلال الإسرائيلي في الضفة تتعزز. كلما مر الوقت من المتوقع أن «تدفع» إسرائيل اكثر وأن «تحصل» على أقل.
لذلك، تقل فرص اتفاق دائم مباشر بين الأطراف وتزداد احتمالات أن تجري عملية إنهاء السيطرة على الفلسطينيين وإنشاء دولة فلسطينية بشكل أحادي الجانب وتغطية أطراف ثالثة.
نتيجة للتوجهات الدولية، يزداد التعلق الإسرائيلي بلاعبين إقليميين ودوليين بالإضافة إلى الولايات المتحدة. كلما تبيّن انه لا يمكن إنهاء النزاع الإسرائيلي ـــــ الفلسطيني عبر المفاوضات المباشرة، يزداد التوجه إلى تدويل النزاع.
وبذلك فإن عملية إنهاء الحرب في لبنان أوجبت إنشاء نظام أمني على حدودنا الشمالية يرتكز على التعاون مع القوات الدولية، القرار 1701، تعزيز اليونيفيل وتفاهمات مع روسيا...
الخطر الكامن في منظومة المقاومة ليس بالضرر أو بعدم الاستقرار اللذين تسببهما لإسرائيل، بل بقدرتها على إحباط خطوات إسرائيل الأساسية لضمان وجودها. لذلك، فإنّ تحديث النظرية الأمنية القومية لإسرائيل هو تحدّ ذو أهمية عليا. هذه العملية ينبغي أن ترتكز على بلورة تفاهم غني ومتعدد المجالات لأهداف إسرائيل، ولحلبة اللعب، والأدوات التي في حوزة إسرائيل، ولنقاط قوتنا وضعفنا وتلك الموجودة لدى حلفائنا، وكذلك التي لدى خصومنا.
هناك عنصر ضروري في الاستعداد لمواجهة تحدي المقاومة هو بلورة قدرة وجود تعاون بين كل الوحدات. تغيير كهذا يحتاج إلى تحديث أسلوب الانتخابات بشكل يجعل الحكومة مستقرة. أحد الأهداف الأساسية لهذا التغيير هو ضمان فترة ولاية طويلة ومستقرة.
الفكرة المعمول بها حالياً لإسرائيل والولايات المتحدة وحلفائهما في لبنان والسلطة الفلسطينية هي «فكرة الكبح». هدفها منع حماس وحزب الله من السيطرة على تلك الدول عبر تعزيز الحكومات والجهات «المعتدلة».
النتيجة أنه من جانب، الجهات المعتدلة مثل حكومة السنيورة أو محمود عباس، تمسك بمراكز قوة أساسية وكذلك بحكم يشكل «عنواناً»، في الظاهر، لتنفيذ سياساتها. ومن جانب آخر، فإنهم ضعفاء ومن دون قدرة على دفع جدول أعمال معتدل قدماً بأدوات ديموقراطية وضمن إطار تشريعي في السلطة الفلسطينية أو لبنان.
الأهمية المركزية لهذه الفكرة أن منظومة المقاومة وحلفائها لا تتحمّل المسؤولية المباشرة عن نتائج أفعالهم ومن الصعب محاربتهم مباشرة أو بطريقة غير مباشرة.
أما فكرة «الكشف» فمن الممكن أن ترتكز على نزع صفة المقاومة ونقل المسؤولية إلى منظمات منظومة المقاومة في المناطق التي يعملون فيها وكذلك التشجيع على هذا التوجه. الاتجاه بشكل خاص هو لتحويل منظمة حماس العنوان في غزة ومنظمة حزب الله حليفتها إلى العنوان في لبنان. عندما تتعزز قوات منظومة المقاومة في السلطة وتتحمل المسؤولية حينها يمكن أن نحاربها وندمر قواها بشكل مباشر جداً.
مدلول فكرة الكشف هو السماح لحكومة السلطة الفلسطينية بالسيطرة حتى لو كانت محكومة من حماس مباشرة أو غير مباشرة أو التسليم بالتغيير السياسي في لبنان الذي يمس بقدرة حكومة السنيورة (هذا التغيير ممكن أن يحدث في الانتخابات).
شيفرة إسرائيل فككت، المقاومة مشكلة وجودية. الحرب في لبنان والنشاطات العسكرية في غزة كشفت عن أزمة في السياسات الأمنية القومية لإسرائيل. هذه الأزمة ناتجة من عدم موضوعية إسرائيل حيال التهديد الذي نشأ من قبل «منظومة المقاومة» على وجودها.
في الأعوام الأخيرة، كانت أبرز ظاهرة هي أعمال المقاومة من لبنان والمناطق الفلسطينية. بواسطتها نجحت «منظومة المقاومة» في منع إسرائيل من تحقيق أي إنجاز عسكري أو سياسي استعداداً لضمان وجودها، من خلال تكوين معطيات لتأسيس دولة فلسطينية عربية إسلامية واحدة مكان دولة إسرائيل. نتيجة لذلك تحولت المقاومة إلى تهديد ذي مدلول كياني.
مقابل ذلك، تتصرف إسرائيل كما لو أن المقاومة تهديد تكتيكي يقع ضمن إطار الأعمال المزعجة. هذا التهديد يتطلب رداً في جوهره عسكرياً موضوعياً. لكن، عملياً، وكما قلنا، إنه تهديد أو مدلول كياني يستوجب رداً جذرياً...
يبدو أن منطق العمل الإسرائيلي يرتكز على تقسيم الحلبات جغرافياً. وقد انعكس هذا المنطق على المستوى النظري التنظيمي وعلى مستوى إدارة الصراع. قيادة المنطقة الجنوبية تحارب المقاومة التي تخرج من غزة، قيادة المنطقة الوسطى في الضفة وقيادة المنطقة الشمالية تخوضان القتال على جبهة لبنان.
المقاومة التي تواجهها إسرائيل تتضمّن المنظمات الفلسطينية وحزب الله في لبنان. بحسب النظرية الأمنية، هذه التهديدات ليست جزءاً من التهديد الوجودي لدولة إسرائيل لأنها تُرى على ضوء الأضرار المحدودة فقط التي يمكن أن تحدثها. مقابل ذلك، ترى إسرائيل كتهديد وجودي، تهديد الدولة الواحدة الفلسطينية والتهديد النووي الإيراني.
بعد حرب لبنان الثانية يبدو أن النظرية المذكورة آنفاً لا تزال قائمة. لا تزال إسرائيل تستند إلى الرد العسكري من دون برنامج سياسي. في المقابل يبدو أن إسرائيل تستند بشكل خاص إلى العلاقات الخاصة مع الولايات المتحدة.
منظومة المقاومة تهديد من نوع جديد لإسرائيل ذو صفات خاصة، فمصطلح «منظومة المقاومة» يتعلق بعدد كبير من اللاعبين، من أنواع مختلفة، والعلاقة بينهم بشكل تقاطعي وإلزامي في محاربة إسرائيل حتى تدميرها... تقود منظومة المقاومة مساراً سياسياً ذا جناحين مقابل إسرائيل. الأول باستخدام المقاومة العسكرية وأدوات أخرى من أجل صد إسرائيل عن أي تقدم مهم عسكري أو سياسي، توافقي أو أحادي الجانب، لإنهاء السيطرة على الفلسطينيين وضمان وجودها. الجناح الثاني إنشاء الدولة الفلسطينية العربية الإسلامية الواحدة مكان إسرائيل.
المنطق العسكري لمنظومة المقاومة هو أمر ثانوي. تدرك منظومة المقاومة التفوق العسكري لإسرائيل. لذلك تمتنع قدر الإمكان عن المصادمات العسكرية المباشرة. بدل ذلك تقود منظومة المقاومة حرب استنزاف متواصلة ومحدودة بوسائل حرب العصابات، من أجل منع إسرائيل من الحسم العسكري أو إنجاز سياسي مهم...
لا يمكن إخضاع منظومة المقاومة بالوسائل العسكرية بسبب تركيبتها المؤلفة من شبكات موزعة. وهي تدار على أساس المنطق السياسي. لذلك فإن «المواجهة غير تكافئية» بين أنواع المنطق المختلفة. إسرائيل تتصرف من خلال فرضية أنها تبلور أمنها القومي على أساس تفوقها العسكري. عملياً، نجحت منظومة المقاومة في منع إسرائيل من تحقيق أي إنجاز سياسي أو عسكري مهم لضمان وجودها. ولذلك، الأعمال التي تنفذها منظومة المقاومة ذات أهمية وجودية. إن منظومة المقاومة تقود إسرائيل إلى طريق مسدود...
من هنا يجب تحديث نظرية إسرائيل الأمنية. وكما ذكرنا يبدو أن النظرية الأمنية الحالية التي ترتكز خاصة على قدرات الجيش الإسرائيلي لا تعطي الرد على تحدي منظومة المقاومة. لذلك على إسرائيل تحديث نظريتها الأمنية، ومنها:
يجب تعزيز العنصر السياسي في النظرية الأمنية عبر إعداد تحالفات إقليمية ودولية، وتحريك مسارات سياسية وتحديث الأهداف القومية مقابل الفلسطينيين...
يجب بلورة رد داخل المنظومة على التحدي الذي يأخذ شكل منظومة، أي إن الجواب الجغرافي المناطقي يتوقع له الفشل.
ينبغي لإسرائيل إعداد تعاون استراتيجي، استخباري، عسكري، سياسي اقتصادي، واسع وعميق مع مصر والأردن، وكذلك مع دول الخليج، السعودية ودول آسيا الوسطى.
إنشاء حكومات محلية قوية هو مصلحة إسرائيلية، فإسرائيل تستطيع أن تضغط على منظومة المقاومة عبر خلق مآزق سياسية تفاقم التوتر بين منطق المقاومة والمصالح القومية المحلية. على سبيل المثال، تستطيع إسرائيل السماح بنقل الأموال إلى السلطة الفلسطينية أو الانسحاب من مزارع شبعا.
على إسرائيل السعي لتحويل النزاع الإسرائيلي ـــــ الفلسطيني من «المُحتل» و«الذي يُحتل» إلى صراع حدودي. رغم أن تغييراً كهذا لن يوقف نشاطات منظومة المقاومة، فمن المحتمل أن يوقف التهديد الوجودي عبر إنشاء دولة عربية واحدة على جميع المناطق الموجودة تحت سيطرة إسرائيلالمصدر:
معهد رؤوت الإسرائيلي للدارسات الاستراتيجية
(كانون الثاني 2007)

العنوان الأصلي:
النظرية الأمنية القومية لإسرائيل غير ذات صلة