strong>كامل جابر
  • الاغتراب ســرق أبناءهــا... والبلــدة الجنوبيــة لا تمــلّ انتظار عودتهــم

  • لا صوت ينبعث من خلف البوابات المقفلة في معظم قصور بلدة يارون الجنوبية وفيلاتها غير زقزقة العصافير المعششة فيها بسبب غياب أصحابها الدائم، هؤلاء كلهم في بلاد المهجر مصدر رزقهم، وثرواتهم هي التي دفعتهم منذ عقدين ونيف إلى التنافس على بناء هذه الدور، فيما لم يتحمّسوا للسكن الدائم فيها ورفدها بمشاريع حيوية أو مؤسسات تجارية

    كان يمكن أن تدبّ الحياة في بعض هذه الدور مطلع أي صيف «عادي»، إذ تأتي إليها العائلات الباحثة عن راحة واستجمام أو لقاء، وكان يقتصر الحضور في مجمل الأحيان على الزوجات والأولاد، وذلك بسبب انشغال أرباب العائلات بأعمالهم ومؤسساتهم. بيد أن هذا الصيف الآتي بعد صيف لاهب عام 2006، بفعل العدوان الإسرائيلي الذي لم يوفر يارون وخلّف في العديد من بيوتها أضراراً جسيمة، جعل البيوت تقفل على فراغ وشوق، فيما يؤكد بعض القاطنين في البلدة «أن الورش التي كانت قائمة في العديد من الدور توقّفت، بانتظار ما سيحمله المستقبل أو المجهول، ولم يبادر البعض إلى إزالة آثار العدوان ومعالجة الأضرار».
    يقيم علي صالح في دارته منذ خمسة أعوام، أتمّ خلالها «تشطيب» البناء، وإلى جانب دارته توقف العمل في فيلّا شقيقه حسين «بانتظار ما ستؤول إليه الأوضاع الأمنية في الجنوب، إذ يعتقد أخي أنه ليس مضطراً حالياً إلى صرف المزيد من الأموال في عملية البناء، وقد يطير تعبه في لحظة من خلال غارة إسرائيلية»، يقول علي ويشير إلى أن أشقاءه الثلاثة بدأوا بعملية بناء بيوت متطورة في يارون «في أرض ورثناها عن والدي، بعدما سافر الجميع إلى كولومبيا بسبب الحرب في لبنان والجنوب، وعام 1984 سبقني شقيقي محمد إلى البناء، ثم بدأنا الورش تباعاً. لكن بتقديري، معظم أبناء يارون يبنون بيوتهم للعصافير».
    هاجر فؤاد علي فرحات يارون ولم يتجاوز الخامسة عشرة بعد، وتابع تخصّصه في هندسة البناء في نيويورك التي سبقه والده وأشقاؤه إليها. بعد التخرج بدأ العمل هناك، ثم أتى في زيارة صيف عام 1987 إلى مسقط رأسه، وتزوج بفاتن صالح وعاد معها إلى بلاد الغربة. عام 1999 «أتيت في زيارة إلى يارون، وشجعني والد زوجتي وأهلي على أن أبني بيتاً في بلدتنا، وقطعة الأرض هدية من والدي، وبدأنا بذلك بعد التحرير. عدت أنا وأولادي بعدما بنى جدهم الطبقة الأولى، ثم رحت أتابع إنهاء البيت شيئاً فشيئاً. وقد دفعنا ما لا يقل عن 500 ألف دولار. لولا وجود هذا البيت، لم أكن لأفكر في أن أعود بعد الحرب».
    «بسبب الاحتلال الإسرائيلي، أخذت أولادي إلى المغترب، درس إبراهيم الصيدلة، ورفيق العلوم السياسية وهو اليوم تاجر كبير، وفؤاد كذلك، وعُيّن مسؤولاً عن مياه منهاتا الجنوبية، سمير تخصص في طب الرئة والعناية الفائقة في بلجيكا وانتقل إلى أميركا، حسن طبيب صحة في الولايات المتحدة وليلى متخصصة في تجهيز عيادات، ولكي يتعلموا، دفعت أموالاً طائلة، وهم اليوم، والحمد لله، منتجون وناجحون»، بحسب علي أحمد فرحات (1932) الذي يشير إلى أن إبراهيم عاد وبنى بيتاً في يارون «واشترى شقة في بيروت وفتح صيدلية هناك، وفؤاد بنى هو الآخر بيته وها هي عائلته تسكن هنا وتتعلم، ومن أجل ذلك أسعى لأن يبني الجميع بيوتاً هنا حتى يظلوا مرتبطين بمسقط رأسهم، هم وأولادهم، وكي لا يفعلوا مثلما فعل أجدادي الذين راحوا ولم يعودواويؤكد «أبو إبراهيم» أن أولاده سوف يعودون إلى الوطن «عندما ينتهي الوطن من محنته السياسية والأمنية، وكذلك جنوب لبنان. ونحن نبني بيوتنا في يارون ليس من أجل التباهي، بل من أجل أن يبقى لأبنائنا موطئ قدم يربطهم بهذه الأرض التي يحبون، ونريد من بيوتنا أن تكون جميلة ورائعة، ما الضير في ذلك؟ فالبيوت بسكانها. لكن نأسف على أن هناك من بنى بيوتاً «للتشاوف» وليقول: أنا هنا، انظروا ماذا فعلت، وإن التحصيل العلمي ليس مهماً، المهم كم تحمل من نقود وأن تتمكن من بناء القصور».
    وعن حياة أبناء يارون في الاغتراب، يشير فرحات إلى أن «أبناء البلدة جمعوا ثروات في المهجر وبنوا مؤسسات وشركات ومحال ضخمة تنتقل من الوالد إلى الولد، وإلى ولد الولد. واللافت اليوم في يارون أن مسيحيّيها اهتموا بتعليم أولادهم ويعيشون اليوم حياة عادية وبيوتهم لا بأس بها ومتواضعة، فيما جمع الشيعة رساميل كبيرة، ويتعاطى معظمهم مع البلدة وكأنها مصيف فقط، فلم يفكروا في بناء معمل أو مؤسسة أو حتى ميني ماركت، ربما لقرب البلدة من الحدود مع عدو غاشم ما زال يعيث في الأرض فساداً، لكن من يبني بيتاً بملايين الدولارات، ألا يمكنه أن يقيم مؤسسة تعوّض الأهالي القاطنين هنا، خسائر الزراعة وكروم الزيتون؟ لذلك نرى بعض التفاوت الاجتماعي بين أبناء البلدة الواحدة، ويظهر هذا الأمر جليّاً».
    ما شجّع على توسّع ظاهرة البناء في السنوات الأخيرة، برأي فرحات، هو الهدوء الذي استشفّه الأهالي بعد تحرير الشريط الحدودي عام 2000، فـ«الاستقرار والتحرير شجّعا على البناء، ولم نتوقع أن يعود الاحتلال ثانية، أو أن نتعرض للعدوان على نحو ما حصل العام الماضي. لقد تضرر الأهالي والبيوت ومواسم التبغ وكذلك محاصيل الزيتون. 20 ألف شجرة زيتون تسمّمت بسبب العدوان ولن تعطي إنتاجاً جيداً هذا العام. برأيي لو أن الأهالي توقّعوا هذا العدوان منذ سنوات خلت، أي بعد التحرير، لما كانوا سيغامرون في بناء البيوت الفخمة، على ما أظنّ، والمثال على ذلك، أن من تضرّر بيته لم يفكر حتى الآن، بعد سنة، في إصلاحه أو ترميمهتنعدم البنى التحتية في يارون، ولذلك من يبني قصراً أو دارة يقوم بحفر جورة صحية لها تتناسب وحجم البناء. حتى الطرق فيها باتت غير مؤهّلة، ويحمّل الأهالي بعض المسؤولية لآليات «اليونيفيل» التي زادت في حفر الطرق ورداءتها، «ولا نجد من يحاسبها أو يلزمها بإصلاح ما تخرّبه». أما البلدية فهي منحلّة ويدير شؤون البلدة قائمقام بنت جبيل. فقد نجحت لائحة انتخابية في الوصول إلى المجلس البلدي، من دون أي تمثيل مسيحي، ما ساهم في انفراط عقدها سريعاً «وها أن البلدة تدفع الثمن، ولا تجد من يهتم مباشرة بأمورها المختلفة، من طرق وبنى تحتية ومساعدات وغيرها».
    حركة البناء متوقفة، الشوارع الفرعية خالية تماماً، إلا تلك القريبة من الساحة العامة القديمة. وجلّ ما يتردد جواباً عن سبب الغياب: إن الغائبين متخوّفون، ولن يجمع هذا الصيف أبناء البلدة المغتربين الذين لم يعرف معظم من زارها منهم الصيف الماضي كيف يغادرها، تحت ضراوة العدوان والقصف الذي أوقع مجزرة راحت ضحيتها عائلة من 5 أفراد، من آل فرحات، إضافة إلى أن الأخبار المتواترة يومياً إلى هناك، لا تشجع على الحضور، وتطلب التريّث.
    تجدر الإشارة إلى أن ما يميّز بيوت يارون الحديثة أن معظمها من الحجر الصخري المتقارب الألوان، فهو إما من الأبيض الناصع النادر المقاوم لتسرّب المياه، وهذا ثابت في تحاليل المختبرات، بتأكيد أصحاب البيوت، وإما من الباج الفاتح المتمتّع بالقساوة والمتانة، وكلاهما من مقالع في البلدة. وقد تسبب التنافس على شرائه بارتفاع ثمن المتر الواحد من 14 دولاراً إلى نحو 27 دولاراً. وكثر من أصحاب البيوت استخدموا اللونين معاً، أو جاؤوا بالحجر «العرسالي» من البقاع، الذي كان يكلفهم مبالغ طائلة، في أيام الاحتلال الإسرائيلي المباشر، قبل عام 2000. وقد زيّن البعض البيوت بشرفات من القرميد الإيطالي، أو بمساحات من الحجر الصخري المنحوت، أو الحجر البني أو البرتقالي.
    من جهة ثانية، يعتبر معظم المغتربين من أصحاب المصالح الحرّة، بينما لم يتابع التحصيل العلمي والدراسات الجامعية غير قلة قليلة منهم، لذلك يتدنّى عدد الأطباء والمهندسين والمتخصصين من أبناء يارون. ولم يسعَ أبناء البلدة بالتالي إلى رفد بيوتهم الفاخرة بمؤسسات أو معامل أو حتى متاجر كبيرة في البلدة، أو نقل نماذج من مؤسساتهم في المغترب إلى البلدة الأم، لتوفّر فرص عمل للقاطنين فيها، وتساعد على تفعيل دورة حياة اقتصادية واجتماعية.




    محطات تاريخية

    اغتراب أبناء يارون بدأ مطلع القرن الماضي، عندما بدأت الهجرة الأولى نحو الأرجنتين، هرباً من الأتراك، لعائلات استوطنت هناك، ظناً منها أن الأتراك ما زالوا هنا، وظلت بيوتها مقفلة تفتك بها الأعوام. ثم ارتفعت وتيرة الهجرة نحو أميركا مطلع الخمسينيات وذلك في أعقاب احتلال فلسطين. رحل البعض نحو هافانا في كوبا ليؤسس اللبنة الأولى في عملية بناء البيوت الحديثة في يارون، ضمن دائرة الضيعة المتواضعة، ثم لحق بهم الجيل الثاني الذي أسس لهجرة واسعة أواخر الستينيات، مع تزايد الاعتداءات الإسرائيلية وتناميها، وتراجع المردود الزراعي، وخصوصاً زراعة التبغ.
    أكثر من ثلثيْ أبناء يارون، أي نحو ستة آلاف، صاروا مغتربين، ويتوزعون اليوم في نيويورك وكولومبيا وأستراليا وباناما. جمعوا هناك رساميل وأسسوا مؤسسات تنتقل بالوراثة إلى الأبناء. وقد بنوا في ما بعد نحو 200 قصر وفيلّا في يارون، من الحجر الصخري الفاخر، تفوق تكلفتها مئة وعشرين مليون دولار أميركي، معظمها غير مأهولة، طوال العام، وقد تدبّ فيها الحياة في بعض عطل الصيف.
    وبسبب إقبال المغتربين على بناء بيوت نموذجية، ارتفعت أثمان الأراضي، ليصير ثمن الدونم الواحد نحو سبعين ألف دولار حداً أدنى. ويُشار إلى أن معظم أراضي القرية تقع في منخفض وسهل، أو على تلة شكلت الضيعة القديمة. وقد خرجت بيوت المغتربين عن الحدود الجغرافية ليارون وامتدت إلى أطراف بنت جبيل ومارون الراس، بسبب وقوعها على تلال مشرفة ومرتفعة. وباتت معاملات أصحابها تتبع فعلياً إلى ثلاث بلديات.