غسان سعود ــ غريس حداد
هي «الإمارة الإسلامية» الأولى، كما يسميها أحد الصحافيين الأجانب، أو «وزيرستان لبنان»، (تيمّناً بمقاطعة وزيرستان على الحدود الباكستانية - الأفغانية حيث النفوذ القوي لحركة «طالبان»)، بحسب مسؤول دولي سابق. القلمون، التي لا يعرفها معظم أبناء «جيل الأوتوستراد» أو الطريق الجديد، يحتفظ جيلها السابق بذكريات طيبة عن «الليموناضة» وماء الزهر اللذين تشتهر بهما، ويذكر جيداً شارع العشاق المزدحم بـ«القلمونيات» اللواتي كنّ، وما زلن، يرفضن الزواج غير المسبوق بقصة حب

يتناقل صحافيون أجانب زاروا الشمال أخيراً، لتغطية أحداث نهر البارد، أخباراً مثيرة عن الملامح الأولى لـ«إمارة إسلامية» قيد النشوء في هذه المنطقة. والمفاجأة أن هؤلاء لا يتحدثون عن مناطق طرابلسية يغلب عليها الطابع الإسلامي، مثل القبّة أو أبو سمرا أو الزاهرية، بل عن القلمون، تلك البلدة الهادئة الممتدة بين دير البلمند شمالاً والبحر جنوباً، التي تعرف وسط الشماليين بـ«بلدة الـ30 أستاذاً جامعياً»، نظراً إلى صغر مساحتها وكثافة عدد المتعلّمين فيها.
للوهلة الأولى، لا تبدو البلدة، لزائرها، مختلفة عن غيرها من القرى والبلدات والمدن السنيّة في لبنان: صور الرئيس الشهيد رفيق الحريري ونجله سعد في كل مكان، إلى جانب صور الرئيس العراقي السابق صدّام حسين والمدير العام لقوى الأمن الداخلي اللواء أشرف ريفي. لكن التوغّل أكثر في شوارع البلدة، يكشف «صوراً» أخرى: معظم الرجال يرخون لحاهم ويرتدون اللباس الشرعي، حالهم كحال النساء. «أستغفر الله»، يردّ صاحب أحد المحال التجارية لدى سؤاله عمّا إذا كان يبيع الخمرة، علماً أن في البلدة حيّاً يعرف بـ«عين الخمّارة»، تيمّناً بخمّارة شهيرة كانت موجودة هناك قبل سنوات قليلة. عبارة الاستغفار نفسها تتردد لدى سؤال شبان مجتمعين في أحد مقاهي البلدة عمّا إذا كانت أفراحهم مختلطة، علماً أن هذه المقاهي نفسها كانت تعجّ قبل بضع سنوات بصبايا يرقصن وسط الشباب على أنغام الأغاني العاطفية، فيما الموسيقى باتت أيضاً من الأمور شبه المحظورة في هذه البلدة.
مساجد البلدة تجتذب أعداداً كبيرة من الشبان، وتبدو أشبه بخلايا نحل، يؤمّها شبان من كل الأعمار، يقرأون، ويتناقشون بصوت منخفض، فيما يصطحب آباء أبناءهم إلى إحدى الغرف المعدّة لتعليمهم مبادئ الدين الإسلامي. ويقول حسن ملاط إن سلفيّي بلدته لم يحتاجوا الى إرشاد مباشر من رجال دين غرباء بسبب سفر بعضهم الى الخليج لفترات طويلة، ولغنى مكتبات جوامعهم بالكتب والمنشورات السلفيّةاهتمام الشباب المتديّن يتجاوز الاطلاع على أوامر الدين ونواهيه في مجال العبادات والمعاملات، الى متابعة أحوال المسلمين في العالم عبر أقراص مدمجة تعرض وجهة نظر السلفيّة من «القمع اللاحق بالمسلمين في شتى أنحاء العالم»، إذ إن «من أصبح وأمسى ولم يهتم بأمور المسلمين ليس منهم»، بحسب الحديث الشريف الذي يردده محدّثنا العشريني، موضحاً أن متابعته لـ«الظلم اللاحق بالمسلمين في كوسوفو عبر هذه الأقراص شجّعني على البحث عن الوسيلة الأفضل لرفع كلمة الإسلام عالياً».
بعض أبناء القلمون يتجنّبون الحديث الى الإعلام خشية تشويه صورتهم، وخصوصاً بعد اعتقال القوى الأمنية نحو عشرة شبان من البلدة، وصدور مذكرات توقيف في حق بعضهم بتهمة الانتماء إلى تنظيم «فتح الإسلام» أو تأييده. وهم يجمعون على استنكار هذه «الاعتقالات الاعتباطيّة»، مؤكدين أن المعتقلين يتصفون بـ«الأخلاق الحميدة والسلوك الحسن»، رافضين إلصاق تهمة الإرهاب بكل من يرخي لحيته، ولافتين إلى أن بعض الموقوفين منحدرون من عائلات مرموقة لها وجود تاريخي في المنطقة ومصالح تجارية في أكبر دول العالم. ويؤكد أهالي البلدة وجود قاسم مشترك لدى معظم الموقوفين: «العداء للشيعة» و«تأييد تيار المستقبل».
غير أن هذا التأييد لا يمنع من أن تكون لسلفيّي القلمون نظرة مغايرة الى الصراع الدائر بين «فتح الإسلام» والجيش، وهم أصرّوا، وفقاً لأحد شيوخ البلدة، على غسل جثة المغوار رامز حمزة الذي قضى في مواجهات البارد، «علماً أن الشهيد وفق الشرع الإسلامي لا يُغسل»، وأكثروا خلال تشييعه من الدعاء لله لكي يغفر له «قتاله المؤمنين».
كيف برز التيار السلفي ونما في هذه البلدة التي كانت، الى أمد قريب، يغلب عليها الطابع العلماني؟
العضو السابق في المجلس الأعلى للحزب القومي السوري الاجتماعي زهير حكم يعيد هذا التطور إلى «وقائع تاريخية ــــــ سياسية موضوعية»، معتبراً أن «استبداد المشايخ حتى منتصف القرن الماضي بالقلامنة دفعهم إلى النفور من التديّن والانتساب إلى الأحزاب العلمانية، وخصوصاً الحزب السوري القومي الاجتماعي الذي زار مؤسسه أنطون سعادة البلدة ثلاث مرات عاميْ 1937 و1947، وقبل اغتياله عام 1949». ومن «القومي» إلى «البعث»، فـ«الناصري»، حافظ أبناء القلمون على الانتماء العلماني، ولاحقاً، مع بروز الأحزاب الفلسطينية، انتمى كثيرون منهم إلى حركة «فتح» التي لا تزال تتمتع بتنظيم فاعل في البلدة. ويضيف حكم أنه منذ منتصف الستينيات من القرن الماضي، بدأت المجموعات الإسلامية بالظهور، وخرجت أولاها، «عباد الرحمن»، من القلمون إلى مختلف المناطق اللبنانية بعدما أسست في القلمون مدرسة «المنار» واهتمت بالشؤون التربوية حصراً، ما ساعدها على استقطاب الكثير من أهل البلدة الذين كان هدفهم الرئيس متابعة تحصيلهم العلمي. ومن رحم «عباد الرحمن» انبثقت «الجماعة الإسلامية» التي حازت في القلمون نسبة كبيرة جداً من المؤيدين، فيما لم تنجح «حركة التوحيد الإسلامي» التي أسسها الشيخ الراحل سعيد شعبان في اختراق الحياة الاجتماعية ـــــ السياسية في هذه البلدة، حتى في عزّ نفوذ حركته في منتصف الثمانينيات.
لكن انضباط المنضوين إلى صفوف «الجماعة» ونظامها الصارم، دفع كثيرين، بحسب المحامي رشيد كركر، إلى الخروج عن تعاليمها في مطلع التسعينيات وفتح قنوات اتصال مع المجموعات السلفية «الجهادية» المنتشرة في العالم العربي، وخصوصاً في السعوديّة. تجاهل هؤلاء القضايا السياسية التي انغمست فيها الجماعة، وركّزوا جهودهم على معالجة هواجس الأهالي والإجابة عن أسئلتهم الروحية والاجتماعية، وتقديم المساعدات الماديّة لهم، مستفيدين من تبرّعات قلامنة الخليج، ما ساعدهم على تعزيز نفوذهم.
عشية الانتخابات النيابية عام 1992، نظّم سلفيّو القلمون تحركهم العلني الأول رفضاً للمشاركة في انتخابات «في ظل نظام لا يمثل المسلمين»، وكثّفوا من نشاطاتهم، وعمدوا إلى نشر مبادئهم، بالترغيب حيناً، والترهيب أحياناً كثيرة، كرمي إصبع ديناميت قرب قاعة للأعراس، أو تمرير كلمة سر لمقاطعة كل من يبيع «منكراً» في محله، أو يفتح مطعمه أو مقهاه في أوقات الصوم في شهر رمضان.
لم يعترض علمانيّو البلدة، بجديّة، على هذه التصرفات، فيما لم تجد «الجماعة الإسلامية»، بحسب أحد المشايخ السلفيّين، في نموّهم ما يخيفها، وخصوصاً أن لا مرجعية سياسية لهم، ولا يوجد في وسطهم معادون لها. والأهم من ذلك أنهم كانوا يقترعون في الانتخابات النيابية والبلدية والنقابية وفق توجّهات قيادة الجماعة. ولفت كركر إلى أن هذه المجموعات تتبع حالياً أسلوب العمل الملتبس والمثمر نفسه مع تيار «المستقبل». ففي الانتخابات البلديّة اقترع السلفيون، وهم الأكثرية، لـ«الجماعة»، ثم جاهروا في الانتخابات النيابية بتأييدهم «المستقبل»، فاقترعوا للائحة «زي ما هيّي» كاملة من دون أي تردد، على رغم أن أكثر من 20 شاباً من البلدة قضوا، بحسب أحد القلامنة، على أيدي مسلحي «القوات اللبنانية» التي هجّرت خلال الحرب أهالي القلمون وأعدمت مسنّين رفضوا ترك أرضهم.
تتعايش في القلمون اليوم، بحسب أحد مشايخها، أربع مجموعات سلفية رئيسية تضم وجوهاً ثقافية وأكاديمية نخبويّة، وأبرز ما يجمعهم التشدد المذهبي. ويؤكد الشيخ نفسه أن القوى الأمنية عثرت على أسلحة في معظم المنازل التي دهمتها في البلدة، وتمكنت من اكتشاف «خليتين جهاديتين» من القلامنة كانتا «نائمتين» وسط الأهالي «في انتظار التعليمات».
يعتقد أحد أبناء البلدة، من الغائصين في تاريخها، أن الدور المرسوم للبلدة في تصوّر السلفيّين الجهاديين يعيدها مئات السنوات إلى الوراء، عندما نشأت بحجة علنية هي استثمار الازدهار التجاري الناشئ من مبيت القافلات المتجهة إلى طرابلس في «خان غازي» في القلمون، فيما كان «الهدف السري» حماية خاصرة طرابلس «مدينة المسلمين». ويشير المؤرخ القلموني إلى توزع أهالي البلدة التي لا يزيد عدد ناخبيها على ثلاثة آلاف، على 103 عائلات، الأمر الذي يضعف الروابط العائلية ويعزز العامل المذهبي والعصبية القلمونية. لذا يصعب على الغرباء اختراق نسيجهم أو اكتشاف ما يدور داخل جدران منازلهم. ويلفت الى وجود «ازدواجية» يصعب تفسيرها، لا تكمن في تأييد تيار «المستقبل» والتعاطف مع «فتح الإسلام» فحسب، بل في احتضانهم آثاراً مسيحية مهمة في مغارة القديسة مارينا في القلمون لعقود طويلة قبل تحطيمها ردّاً على الذبح على الهوية، تماماً كما يرسلون أبناءهم إلى مدارس المسيحيين وجامعاتهم ثم يكمن بعضهم للرهبان المتوجهين إلى دير البلمند، وتماماً كما يحظرون بيع الخمر في بلدتهم، فيما يتغاضون عن المجمعات البحرية وبيوت الدعارة الموجودة بكثافة عند أطراف البلدة!
يهزّ المؤرخ العلماني رأسه وهو يعدّد هذه الظواهر، وغيرها، قبل أن يقول إن «التجارة مع الله ربّيحة» بالنسبة إلى البعض، فلقب شيخ لخارجٍ من بيئة اجتماعية مهمّشة تجعله قادراً على صنع المستحيل.