جوزف سماحة
عندما بدأ العدوان على لبنان كان يمكن تمييز ثلاثة مواقف بارزة: الأميركي - الاسرائيلي، اللبناني الرسمي، المقاومة. اما الموقف العربي الرسمي، كما عبرت عنه السعودية ومصر والأردن، فكان ميالا، بوضوح، الى الموقف الأميركي - الاسرائيلي.
يستند هذا التقدير «العربي» الى «تحليل» يعتبر ان المنطقة مهددة بمشروع ايراني لا بمشروع ترعاه واشنطن وتشاركها تل ابيب في تنفيذه. وليس سرا ان هذا هو «التحليل» الأميركي - الاسرائيلي. كما ليس سرا ان هناك، في لبنان، من يتبناه.
في ذلك الوقت، اي قبل حوالى شهر، خرج من يتحدث عن «المغامرة» و«المحاسبة». وكان في الظن ان الجيش الاسرائيلي هو الأداة التنفيذية لصدّ «الهجوم» القادم من الشرق. وبما ان التنفيذ اسرائيلي فإنه، بالضرورة، تنفيذ سريع.
كانت المفاجأة أن صمودا حصل وأن قتالا أفسد الحسابات. ثم كان ما كان من انفلات الوحش الاسرائيلي من عقاله، وانقضاضه على المدنيين، وتهديده بالقضاء على لبنان كله وصولا الى مقاومته.
شهدنا تدريجيا، وبفعل الصمود، انزياح الموقف العربي المشار اليه نحو نقطة وسطية، وهو انزياح لم يحصل الا تحت غطاء تلعثم في الخطاب فضائحي ومداراة لغضب ملموس عبّر عنه الرأي العام. انتقل الموقف العربي نحو تبني سياسة الحكومة اللبنانية وهي سياسة «أرقى» من سياسات بعض العواصم نتيجة الحسابات الداخلية الدقيقة.
في مثل هذه الأجواء عقد الاجتماع الوزاري الطارئ في بيروت، اعتمد برنامج «النقاط السبع»، وقرر الذهاب بها الى نيويورك.
بكلام آخر تغير الموقف الوسطي العربي من موقع الشراكة في انتصار اسرائيلي مفترض الى موقع مساعدة الضحية التي تعبر عنها دموع فؤاد السنيورة أكثر من خطابات حسن نصر الله.
لا يمكن النظر الى هذا التحول سوى بإيجابية. لقد تورط القائمون به. تورطوا لأن المشروع الفرنسي - الأميركي المقدم الى مجلس الأمن اصبح واضحا. وأيضا لأن الاعتراضات اللبنانية الرسمية عليه واضحة. واخيرا لأن البنود المحمولة عربيا الى مجلس الأمن صريحة.
لقد ارتضى «النظام العربي الرسمي» (في لحظة غفلة؟) أن يدخل في اختبار لتماسكه، وموقعه، ووزنه، وقدرته على التأثير على مجرى التطورات.
ومن يقل ذلك، يقل، حصرا، انه ارتضى اجراء حساب لنوع علاقة الولايات المتحدة به. ليس الأمر بسيطا.
وهو ليس بسيطا بصورة خاصة لان الاجتماع العربي السابق في القاهرة خلص الى نعي عملية السلام برمّتها، وأكد انه يعتزم التوجه الى المجتمع الدولي للمطالبة بحل عادل وشامل. وبناء عليه بات على أركان هذا «النظام العربي» ان يبدو جديين في معالجة الأزمة الفرعية في لبنان حتى لا يصادروا على انفسهم احتمال التعاطي معهم بجدية عند التطرق الى الأزمة الأصلية الخاصة بالصراع الأشمل في المنطقة.
ولعل من الواجب التذكير بأن السلوك اللبناني وسلوك «حزب الله» تحديدا، وفرا مددا للخطوة العربية عبر الموافقة على ارسال الجيش الى الحدود. فبهذا القرار بات يمكن القول ان الموقف العربي الاجمالي بات يملك خيارا واقعيا يطرحه في مواجهة الخيار العدواني الأميركي - الاسرائيلي. والخيار الواقعي قابل للتسويق بصفته خيارا سلميا.
ذهب الوفد الى نيويورك. تحدث في مجلس الأمن. تساجل مع المندوب الاسرائيلي. التقى سفراء الدول الاساسية ... الا ان النتيجة الوحيدة الملموسة، حتى الان، هي النجاح في اجراء اختراق نسبي للموقف ... الفرنسي. فالولايات المتحدة تتصرف وكأن شيئا لم يحصل. لا بل انتقلت نحو رعاية عملية برية اسرائيلية واسعة او، على الأقل، نحو التهديد بها ولو انها، هذه المرة، موجهة ميدانيا ضد لبنان وسياسيا ضد النظام العربي كله. ولقد بات معروفا ان كوندليزا رايس تحادثت لنصف ساعة مع ايهود اولمرت عندما كان الاجتماع الوزاري المصغّر منعقدا في حين كان ديفيد ولش يبدي استغرابه امام السنيورة لقرار توسيع العدوان.
ان نتيجة الزيارة الى نيويورك قاصرة جدا. لا بل انها كاشفة للوزن الذي تقيمه واشنطن ل«اصدقائها» اللبنانيين والعرب. فجورج بوش لا يتردد عن وضعهم امام السؤال الذي يريدون تجنّبه: أي بديل تملكون اذا لم يؤخذ برأيكم؟
ان الغياب الواضح لهذا البديل هو عطب الوضع العربي الراهن. ولم نكن نحتاج الى هذه الحرب لاكتشاف الخلل. لقد كانت المناسبة الأخيرة لذلك هي «المبادرة العربية» في قمة بيروت. ففي ذلك الوقت جدد ارييل شارون اقتحام الضفة فلم يلق أي رد فعل سوى المشاركة العربية الصامتة في محاصرة «العقبة في وجه السلام» أي ياسر عرفات.
لقد ولدت المبادرة اياها ميتة لأنها لم تكن مزوّدة بخطة عمل لما يمكن ان يحصل في حال اسقاطها. ويكرر الأمر اليوم ويتكرر معه اليقين من ان النظام العربي الرسمي يعيش حالة انعدام وزن. ان هذه الحالة هي «التطرف» الأول والأكبر الذي نشكو منه جميعا، وهي الدليل على ان هذا الجسم البليد والممدد انما يستدعي البرابرة.
لقد كنا نخشى، خلال هذه الأزمة، أن يستقر رأي «القادة» على أن لا وزن لهم الا من جراء اندراجهم في الخطة الأميركية - الاسرائيلية. لقد امكن للصمود ان يؤجل هذا الاحتمال. غير انه وارد الى حد يجعلنا نعتبر ان «انعدام الوزن» هو أقصى ما يمكن الطموح اليه في هذا الزمن الرديء.

10 آب 2006