strong> كامل جابر
لم يكن صباح مدينة النبطية مثل أي صباح سبق المجزرة. المدينة التي ظلت ترزح تحت سيف العدوان، منذ اليوم الأول، كانت تتعالى على الخوف والقلق لتشرع بعض أبواب محالها ومؤسساتها، أمام الراغبين في التزوّد ببعض المؤن، الخبز وبعض احتياجات الأطفال ولتتواصل، أحياؤها بأحيائها، وأهلها بأهلها ومع الجوار.
ذلك الصباح المؤلم قطع شرياناً أساسياً في قرار الإصرار على الصمود. انبلج ضوؤه على دمار شامل لحيز أساسي من الوسط التجاري، وعلى مجزرة، ضحاياها نسوة وأطفال من عائلة واحدة رفضت النزوح. كل أبناء السوق والمدينة يعرفون الحاجة خديجة بدر الدين، أم مصطفى حامد. هي ابنة هذا الوسط، وهي التي فقدت من سنوات غير بعيدة زوجها، وكذلك ابنها الوحيد مصطفى، العائد جثة من الاغتراب ليصيب جرحاً في قلب والده الذي لم يحتمل الحزن.
قضت الحاجة أم مصطفى تحت أنقاض بيتها المطلّ على السوق، والذي بنته «طوبة طوبة» بعد عمل عشرات السنين هي وزوجها علي حامد. قضت معها ابنتها هيبات البالغة 57 عاماً، وحفيدها صادق مصطفى حامد (13 عاماً)، بعدما أصيب شقيقاه مهدي وعلي والوالدة اتحاد عبد الرؤوف بيطار، بجروح بالغة، وأنقذهم وجودهم قرب جدار في الطبقة السفلى، وكذلك ابنة «سلفها» ورود حسن حامد (37 عاماً) وخادمة من التابعية
السريلانكية.
عام يمرّ كأنه يوم على الوالدة المفجوعة اتحاد عبد الرؤوف بيطار بابنها صادق. لا يقوى القلم على تدوين حكايتها من غير ارتجاف. إنها ثكلى، والحزن يملأ قلبها وفمها. لا تبالي بأوجاع الإصابة التي تعرّضت لها، أو بخمسة عشر كيلوغراماً فقدتها من وزنها حزناً على صغير أولادها الثلاثة، صادق حامد. «صار يتيماً قبل أن يبلغ السنتين، لا يعرف والده لكنه ظلّ يحلم به، وتعلّق بي. كنت عندما أعود من عملي، أجده نائماً يحتضن بيجامتي. ليش بدو يموت؟ كان من حقو يعيش».
تعيش الوالدة مجمل وقتها قبالة صورة ابنها «لم يبقَ لي من ذكره شيء، ولا حتى «دبدوب» من لعبه، فقط طابة من طاباته عثر عليها شقيقه في البيت «المنهوب» بعد الغارة. حتى صوره لم أجد منها واحدة، هذه الصورة المعلقة على الحائط الموشومة بابتسامة حزينة، أخذتها من مدرسته، كانت قد التقطت له في رحلة قبل خمسة أيام من العدوان، إنها آخر صوره».
كانت الوالدة، قبل ثلاثة أيام من 19 تموز، تعدّ العدة للنزوح إلى منزل شقيقتها في بشامون هي وأولادها علي (23 عاماً) ومهدي (17 عاماً) وصادق (13 عاماً). «تأخر السائق في تلك الليلة على طريق الشام وبسبب القصف، علق في منطقة العيشية قرب بلدة الريحان. وصل إلى النبطية قرابة العاشرة والنصف. بدأنا ننقل أغراضنا إلى سيارة «الفان»، وكان شقيقي المهندس حسن معي على الخط، سمع كلمة «فان» فطلب أن ننزل فوراً منه وننتظر حتى الصباح وقال لي، لا يمكن أن تنتقلوا ليلاً بالفان، ستصطادكم الطائرات على الطريق. وكانت هذه رغبة حماتي أيضاً فعدنا إلى البيت، احتضنني صادق وقال: ماما أنا خيفان».
عند الساعة الرابعة والنصف من فجر 19 تموز، عندما استيقظ الجميع على دويّ غارة، سألت اتحاد ابنها صادق: «سمعت يا ماما؟». تمرّ لحظات وفجأة «كأن أحداً صبّ علينا باطوناً! أنا وابني مهدي على فرشة، وصادق وورود حامد ابنة عم زوجي على فرشة. لم أعد أرى أحداً، الفاصل بيني وبين صادق كومة من حجارة، وعلى ظهورنا كومة أخرى، صرخت لابني علي في الغرفة التالية، فتوجه فوراً إلى عماته وأحضر لنا ضوءاً. وصل صوت علي إلى السماء وهو يصرخ وينادي: ساعدونا.. أهلي تحت الردم، ولم يجب أحدمرّ الوقت طويلاً من دون أن يصل منقذ أو مسعف. يتولى علي مهمة الإنقاذ وحده. يحاول أن ينبش التراب ليفتح كوّات تهديه إلى والدته وشقيقيه «بقينا ساعتين تحت الدمل (الردم)، أكثر من عشر دقائق وأنا أسمع أنين صادق بعدما عبّر عن شعوره بأنه يختنق، ثم سكت. قلت أُغمي عليه وارتاح من الخوف. بقينا أنا ومهدي فوق بعضنا، وكان قد تبادل قبل هو وورود الأمكنة قبل ساعة، بنية ابني القوية حمتني، وكلما حاولت الاستسلام والسكوت، كان يرفع مهدي صوته وينادي: ماما ما تموتي، قومي».
يطول الوقت وثقل الباطون والردم ينهك مَن تحتَه، تسمع اتحاد صوت ورود وهي تقول: «الهواء بدأ ينفد، ماذا نفعل؟» فتجيبها اتحاد: «إنها النهاية، اتلي شهادة الموت». وهذا ما كان: «قرأت الشهادة ولم أعد أسمع صوتها. ثم بدأت أشعر بكل دعسة من دعسات رجال الدفاع المدني، كأنها تضرب على ظهورنا. تمكن علي من فتح كوة، سرّب المنقذون منها الاوكسيجين إليّ». وآخر جملة ردّدتها ورود مخاطبة ابني علي: «دخيلَك شيل عني الحجر، ثم لفظت أنفاسها. كان هذا بعد ساعتين، كان يمكن أن تبقى حية، يا حرام».
كان آخر ما طلبته اتحاد من علي أن ينقذ صادق «إنني لا أسمع صوته»، ثم أفاقت في المستشفى بعد عمليات لجروح قدميها وحروقها. بقيت تظن أن صغيرها مصاب وفي غيبوبة، وتردد «بكرا بس يقوم بدي إذبحلو فدو».
ثمة آلام أخرى تعصف بالوالدة، التي تتمنى لو أن الموت أخذها مع ابنها، سببها أن كل أغراض العائلة التي كانت بالبيت قبل أن تدمره الغارة الثانية بعد يومين «جرى نهبها، صيغتي بأكثر من 70 ألف دولار، لم يبق منها شيء، الأثاث، الأغراض، هل يعقل؟».
ذلك اليوم استمرّ البحث عن ناجين بعدما أفاد الجيران بأن ابنة الحاجة خديجة، فايزة حامد وزوجها عمار جابر وأولادهما الثلاثة كانوا في البيت، وكذلك ابنتها نهلة حامد، وابن نهلة محمد هزيمة وشقيقته ديما وابنتها سينتيا... مجزرة مروعة وقعت.
فجأة أطلّ المدرس عمار جابر بشكل هستيري، يتراكض البعض نحوه، ليستفسر عن الباقين في المبنى. «أبلغنا حماتي أننا سنغادر البيت، فنحن غير مطمئنين إلى وجودنا في محاذاة شقة لمؤسسة «القرض الحسن»». يتذكر أن الجميع ردّ عليه بأنها مؤسسة لا تتعاطى السياسة فلماذا استهدافها؟
«قلت لحماتي اخرجي معنا، أحملك على الدرج، قالت: سنغادر غداً، وعائلة المرحوم مصطفى قد تغادر الليلة. هيبات قالت: يومان وتنتهي الحرب». هكذا خرجت معه نهلة شقيقة زوجته وعائلتها التي كانت قد جاءت قبل أسبوع من السعودية.
«عدنا إلى بيتنا قرب المبنى القديم لثانوية الصباح الرسمية. وعند الفجر طرق بعض الأصحاب الباب ليسألوا عنا وأبلغونا أن الطائرات الاسرائيلية أغارت على مبنى القرض الحسن ولا ندري من تحت أنقاض المبنى. صرت أبكي وأضحك في آن، بشكل هستيري: راحوا كلهم؟ وصلت إلى هناك ووجدتهم يبحثون عني وعن عائلتي».
ويروي عمار أن ورود ابنة حسن حامد رفضت أن تخرج مع أهلها وبقيت إلى جانب عماتها المسنات الثلاث، اللواتي أصبن ببعض الجروح والحروق.
بعد خمسة أيام على المجزرة، شيّع نفر قليل من المدينة، يتقدمهم إمامها الشيخ عبد الحسين صادق، شهداء مجزرة آل حامد، في غياب أفراد العائلة، الذين زادت المجزرة في تشتيتهم في أكثر من منطقة وبلدة.

سالم حمزة «شهيداً» بعد عام

حوّلت آلة الدمار الإسرائيلية الفتاكة، سوق النبطية إلى خليط من ركام وبضائع مهشمة مكبّدة أصحابها خسائر لا تحصى. خسائر توازي الروح، إذ أتت على جنى العمر للعشرات ممن بنوا تجارتهم شيئاً فشيئاً حتى عمرت دكاكينهم بالأقمشة والزجاج والخضرة بعد غياب نمط سوق الغلّة.
أتت الغارتان الإسرائيليتان ذلك الصباح على ثلاث طبقات من الزجاج والثريات والساعات والتجهيزات المطبخية والمنحوتات وغيرها. لم يبق منها ما يشير إلى عنوان مؤسسة المواطن سالم حمزة. الخسارة تتجاوز مليون دولار.
الكلام كله لا يجدي برأي سالم، الذي قال يومها: «إنه العدو الظالم الغاشم... لم تكن الخسارة هي الأولى، لكن لم يصب العدوان في المرات السابقة كل ما أملك في هذا الوسط الذي نشأت فيه ولا أعرف بديلاً عنه، مثل هذه المرة. إنها الضربة القاتلة».
قبل أقلّ من شهر فارق سالم حمزة (52 عاماً) الحياة، ليغلق الموت الباب على معاناة عام كامل من انتظار بعض التعويض على خسارته الكبرى. ربما كان في رحيله راحة من ألم لا يحتمل وقلق لا باب فرج له.