strong> بلال عبود
  • عن فسحة صغيرة في الهواء الطلق صارت ملجأ الفقراء ومسرح قيلولاتهم

  • ثمة أمكنة لا تبوح بسرها بسهولة، تراها تجذب الناس إليها من دون سبب «منطقي» أو «سياحي». بين بيروت والضاحية ثمة مقعد وإكسبرس تحت جسر السلطان إبراهيم، هناك يلتقي سائقو التاكسي فيمضون ساعات استراحتهم اليومية، ويتحدثون عن حياتهم ويخلقون فسحة خاصة بهم، ويلتحق بهم آخرون... هنا نزهة تحت الجسر حيث تنسج حكايا الناس البسطاء

    يجلس أبو أحمد على أحد المقاعد الموجودة عند تقاطع جسر السلطان إبراهيم في بيروت مع جادة المقاومة والتحرير، يرتاح هناك بعدما أنهكته ساعات التجوّل الطويلة في شوارع العاصمة والضاحية الجنوبية بحثاً عن الركاب.
    على هذا المقعد تحديداً يجلس أبو أحمد كلما شعر بحاجة إلى الراحة قبل استئناف عمله اليومي، هناك يلتقي أصدقاءه، فالمكان قد تحوّل إلى ملتقى واستراحة لأصحاب أو سائقي السيارات العمومية، إليه يتوجّهون ليأخذوا فترة استراحة مع فنجان قهوة أو ربما للقيلولة.
    أبو أحمد سائق سيارة أجرة منذ أكثر من 27 عاماً، وهو لم يجرب أي عمل آخر طوال حياته، يرى أن واقع الحياة وظروف العمل تغيرت اليوم عما كانت عليه في شبابه، فيقول «في ما مضى كان سائق السيارة العمومية يتمتع بمكانة مهمة في نظر الآخرين، أما اليوم فإنه بالكاد يحصّل قوته»، ويضيف: «إن العمر له حق، وأنا أصبحت أتعب بسرعة»، لذا يخص أبو أحمد نفسه باستراحة يومية تمتد لأكثر من ساعتين، وقد يأتي ظهراً أو في ساعات العصر، ليحتسي فنجان القهوة عند «الإكسبرس» الموجود على جانب الطريق والذي يرتاده الكثير من السائقين، ولكل منهم أسبابه في اختيار هذا المكان.
    يُفاجأ المرء حين يعلم أن أبا أحمد من سكان وطى المصيطبة وأنه على رغم قرب «الإكسبرس» من منزله إلا أنه يفضّل أن يمضي استراحته على مقعد تحت الجسر بدل التوجه إلى منزله، وقد يأخذ قيلولة على هذا المقعد بعيداً من ضجة الشوارع والبيت و«الصراع مع سائقين آخرين من أجل الراكب». وخلال هذه القيلولة قد يحلمون بحياة هانئة مريحة، ويدركون أنه لن يقترب أحد منهم لمنعهم من النوم والحلم.
    من يتعرّف بأبي أحمد فسيعرف بالضرورة أصدقاء جلسات المقعد الآخرين، وحكاياهم المتنوعة. يجمعهم المقعد وفنجان القهوة عند الإكسبرس، فضلاً عن «المهنة الواحدة». ويفضّل كل منهم أن يعرّف نفسه بكنيته لا باسمهأبو محمد موسى (49 عاماً) هو موظف في إحدى الإدارات الرسمية ويعمل بعد الدوام الرسمي سائق سيارة أجرة، وذلك لكي يتمكن من توفير دخل مقبول، فراتبه الشهري لا يكفي لتلبية المصاريف الكثيرة التي تطلب منه بصفته أباً لعائلة كبيرة ومعيلها الوحيد. «الجلسة تحت الجسر تفصل بين عالمين»، كما يقول أبو محمد، فهو يأتي إلى هذا المكان بعد انتهاء الدوام الرسمي في إدارة الدولة ويبقى فيه ساعة أو ساعتين، يرتشف فنجان قهوة ثم ينطلق بعدها في أولى جولاته بحثاً عن الركاب. وهو «من سائقي الليل»، كما يعرّف نفسه، «الليل الذي أصبح موحشاً في هذه الأيام، بعدما كانت الجولة المسائية في شوارع بيروت في أيام الصيف تُغني عن الذهاب إلى باريس».
    يلتقي أبو محمد في هذا المكان مع «رفاقه» في المهنة التي يُعتبر من «الدخلاء» عليها. أكثر ما يهمّه هو أن «الإكسبرس» لا يغلق أبداً، فهو يعمل ليلاً ونهاراً، وفي أي وقت يمكن أن يجد بعض الأصدقاء.
    المكان يجمع مجموعة من السائقين من عدة مناطق في بيروت والضاحية والأوزاعي. يجذبهم إلى المكان الهدوء الذي يسيطر عليه مقارنة مع شوارع العاصمة المزدحمة بالناس والسيارات. وتجذبهم «إلى تحت الجسر» نسمات الهواء التي لا تختفي حتى في عزّ أيام الصيف. ويقول أحد السائقين منير طه «إن المكان هنا مميز لوجود الفسحة الكبيرة تحت الجسر، ما يسمح بركن السيارات لتبريد محركاتها في الظل». فزحمة السير وارتفاع الحرارة يؤديان إلى إرهاق السائق والضغط على سيارته، ما يدفعه إلى المجيء إلى هنا حيث يموّه عن نفسه. «البعض يكتفي بشرب شيء ما»، فيما يلعب آخرون طاولة الزهر أو لعبة «الداما»«فرحو» هو الاسم الذي يُعرف به أحد الشبان الذين يعملون في المقهى الصغير الذي يطلق عليه السائقون اسم «إكسبرس». يرى فرحو أن ما يدفع السائقين إلى أن يأتوا «إلى هنا هو موقعنا الاستراتيجي» القريب من بيروت ومن أحياء الضاحية الجنوبية. يعمل فرحو في «الإكسبرس» منذ ثماني سنوات، ويؤكد أن «معظم السائقين هم أصدقاء»، ويعرف مزاج كل واحد منهم، ويعرف أي ماركة دخان يفضّل كل سائق وكيف يشرب قهوته. ويجزم في هذا الإطار بأن القهوة اللذيذة تدفع بعدد لا بأس به من الزبائن إلى تفضيل هذا المكان على المقاهي الصغيرة الأخرى.
    يتناوب فرحو في العمل مع ثلاثة شبان آخرين، يمضي كل منهم ساعات في هذا المكان الذي لم يُقفل طوال ثماني سنوات إلا خلال العدوان الإسرائيلي الأخير على لبنان في تموز 2006، فقد «كان البقاء تحت أي جسر هو بمثابة خطوة انتحارية».
    محمد أحد العاملين ليلاً في هذا «الإكسبرس»، يرى أن التحسينات التي طالت البنى التحتية تحت الجسر كان لها تأثير إيجابي، فإنشاء ما يسمى حديقة السلطان إبراهيم ووجود بعض الحمامات العمومية حوّلت المكان إلى منتدى يلتقي فيه السائقون وأصحاب مهن أخرى.
    تتشابه هموم أصحاب «النمرة الحمراء» في بعض النواحي، فمشاكل المعيشة وزيادة أسعار المحروقات وقلة الركاب بسبب الوضع الأمني السيء في لبنان، كلها أمور توحّد بينهم كما تجمعهم الجلسة اليومية تحت الجسر. فحين يتحدث حسن مصطفى عن أن مزاحمات «الفانات» والحافلات الكبيرة أدت إلى تراجع العمل بشكل كبير، يهز الآخرون رؤوسهم دليل موافقتهم على ما تقدم به زميلهم.
    ويقارن حسن العمل قبل 15 عاماً حين بدأ العمل سائق أجرة ولم تكن المشاكل التي يواجهها معقدة، مع عمل اليوم، فيقول: «الله يرحم أيام الألف»، وبهذه العبارة يختصر شروحاً كثيرة حول تردّي الأوضاع على رغم زيادة تعرفة الأجرة لتصبح 1500 ليرة. ويرى أن على السائق أن يتقاضى 3000 ليرة حداً أدنى من كل راكب ليتمكّن من تسديد ثمن البنزين، «وأقل من هذا المبلغ يعني خسارة لنا»، ولهذا يفضّل حسن أن يركن سيارته طويلاً تحت الجسر ويقصر جولاته على الساعات التي يسميها «الأوقات الدسمة بالركاب».
    إلى جانب سائقي سيارات الأجرة، يرتاد المكان أيضاً عدد من الشباب من محيط الجسر وخاصة في المساء، حيث يمضي هؤلاء أيضاً ساعات «السهرة» في لعب الورق تحت أضواء الإنارة الليلية، وذلك بسبب العتمة التي تخيّم على بيوتهم نتيجة التقنين الكهربائي الدائم في أحيائهم.
    تقاطع جسر السلطان إبراهيم في بيروت مع جادة المقاومة والتحرير، تحوّل بفعل الظروف المختلفة أكثر من مجرد موقع تلتقي عنده الطرق، إذ صار مركزاً جامعاً لهموم فئة من المجتمع اللبناني ومشاكلها. ولا يقل عدد السيارات التي تتوقف عنده عن 20 سيارة في معظم الأوقات، وتصل في بعض الأحيان الى 80 سيارة، ويسعى أصحابها للخروج من حالة الجمود والإحباط التي تسيطر على يومياتهم... ولكن عبر الهروب إلى فسحة خضراء صغيرة تكاد تكون شبه معدومة في حياة كل منهم.




    «روبير» الضيف الدائم

    روبير شاب يبلغ من العمر 35 عاماً، يمضي أيامه في كرسيه المتحرك الذي لم يفارقه منذ كان عمره 4 سنوات، ولا يقدر على النطق بشكل سليم نتيجة حادث تعرض له. يشير بإصبعه إلى رأسه حيث أُصيب بإطلاق نار من بندقية صيد من طريق الخطأ. وقد أحدثت هذه الطلقة خللاً في جهازه العصبي وأضرّت بقدرته على المشي وعلى التواصل الطبيعي مع الآخرين.
    يسكن في «تخشيبة» قرب شاطئ البحر في الأوزاعي. يأتي روبير يومياً إلى جلسة «الإكسبرس» قرب السلطان إبراهيم حيث يقوم بإيصاله من يكون قاصداً المكان أو ذاهباً في الاتجاه نفسه. يمضي كل نهاره وهو يتابع مرور السيارات، من زاوية في الظل يتخذها نقطة مراقبة له. فحاسة النظر هي أغلى ما يملك بالإضافة إلى التدخين الذي يعتبر قوته اليومي، فهو يدخّن حوالى 60 سيجارة، وقد يشرب فنجان قهوة.
    يحاول بلغة الإشارة وببعض الكلمات غير الواضحة أن يشرح كيف أن كثيرين من أصحاب السيارات الفخمة الذين يتوقّفون لشراء علبة سجائر، يعطفون عليه بالمال أو يشترون له الدخان وشيئاً يأكله، ولكنه لا يبقى في المكان بدافع التسوّل، فهو هنا لأنه لا يجد مكاناً آخر يذهب إليه.
    يهز برأسه ليردّ السلام على من يسلّمون عليه من أصحاب سيارات الأجرة الموجودين في المكان. فهو من رواد «الجلسة» الدائمين...
    لا يحب روبير التجوّل تحت أشعة الشمس، إذ يشعر بألم شديد في رأسه بفعل الحرارة المرتفعة، لذلك يبقى قرب «الإكسبرس» حتى غياب الشمس، حينها يطلب من أحدهم أن يدفع عربته ويوصله إلى مدخل الحي حيث يسكن، وهناك يتكفّل نقله أحد شباب المنطقة حتى مدخل المنزل حيث يمضي الليل بانتظار اليوم التالي ليعاود الانطلاق إلى نزهته اليومية.
    يفرح روبير كثيراً وهو يرى أناساً يمشون بجانبه، فهي نعمة حُرم منها ويحاول أن يعيشها من خلال الآخرين.
    الآلام الكثيرة التي يعانيها لم تسرق الابتسامة عن وجهه، وعلى رغم أنه لا يعرف الكثير من الكلمات ويجد صعوبة في نطق أي كلمة جديدة لكن أكثر ما يقوله هو «الحمد لله».