نقولا ناصيف
يكاد يكون رئيس اللقاء الديموقراطي النائب وليد جنبلاط الوحيد من زعماء 14 آذار الذي لم يخض بعد في موضوع النصاب الدستوري لجلسة انتخاب الرئيس الجديد للجمهورية. وهو يقارب الاستحقاق الرئاسي باستمرار على أساس أنه آخر خطوات قوى الغالبية لإحداث فصل حقيقي بين لبنان وسوريا، وإنهاء نفوذ دمشق غير المباشر في الوضع الداخلي. ويقاربه بكثير من القلق كي لا يكون الاستحقاق ثمرة تسوية سياسية، بل آخر انتصارات قوى 14 آذار لتثبيت توازن قوى جديد في لبنان يضع الحكم كليّاً في يد تلك القوى. وهو إذ لم يجهر حتى الساعة بتأييده انتخابات رئاسية بالأكثرية المطلقة، لا يبدو أقل حماسة من المنادين بهذا الخيار. إذ يدرك الزعيم الدرزي أن كل الانتصارات السياسية التي حققتها قوى 14 آذار منذ ما بعد 14 شباط عام 2005 كانت وليدة أحد خيارين: المناورة أو انتزاع الأمر بالقوة.
على هذا النحو تلاحقت سلسلة خطوات سابقة منذ انتخابات 2005 وسيطرة قوى 14 آذار على الأكثرية النيابية وتأليف حكومة الرئيس فؤاد السنيورة بثلثي أعضائها من القوى نفسها، ثم تعيينات أمنية وقضائية وإدارية ودبلوماسية وإخراج الجيش اللبناني والأجهزة الأمنية من فلك الإدارة السورية وتعزيز العلاقة بالمجتمع الدولي وصولاً إلى الاستحقاق الرئاسي. في طريق تحقيق هذه الخطوات، في السنتين الأخيرتين، وبعد خروج الجيش السوري واستخباراته العسكرية من الأراضي اللبنانية كان ثمة حدثان مهمان: القرار 1701 في الجنوب لإخراج الحدود اللبنانية ـــــ الإسرائيلية ومزارع شبعا من دائرة التجاذب الإسرائيلي ـــــ السوري غير المباشر وجعل الحدود اللبنانية ـــــ السورية تحت مراقبة مجلس الأمن، والمحكمة الدولية التي تمثّل ضمناً تهديداً دولياً للنظام السوري. وقد يكون جنبلاط بين قلة من السياسيين الحاليين الذين خبروا معركة النصاب الدستوري لانتخاب رئيس جديد للجمهورية في ظل واقع سياسي أخلّت تطورات سياسية بتوازناته الداخلية عامي 1976 و1982، وكان هو ـــــ وقبله والده الراحل كمال جنبلاط ـــــ في قلب معركة سياسية برّرت مقاطعة جلسة الانتخاب ودافعت عنها، وحرّضت النواب على عدم المشاركة في جلسة الانتخاب. ونظر إلى الاستحقاق الرئاسي حينذاك على نحو ما فعل والده الراحل باعتباره المواجهة الأكثر خطورة في رسم مستقبله السياسي ضمن المعادلة الداخلية. وكما رفض جنبلاط الأب الرضوخ لتسوية الأمر الواقع والقبول بوجود سوريا في لبنان عام 1976 فخاض المواجهة المكلفة تلك، كذلك فعل جنبلاط الابن برفض الأمر الواقع الإسرائيلي عام 1982 والتصق بالخيار السوري إذ وجد أن الرئاسة اللبنانية في ظلّ بشير الجميّل ستقود لبنان إلى نظام آخر، فخاض بدوره معركة مقاطعة انتخاب بشير وغادر لبنان وأقام في دمشق، ثم خاض لاحقاً معركة ضد عهد الرئيس الخلف أمين الجميّل.
كانت مقاطعة انتخابات 1976 ضد دور دمشق في لبنان وتدخلها لفرض رئيس جديد للجمهورية هو إلياس سركيس، ومقاطعة انتخابات 1982 ضد دور الولايات المتحدة وإسرائيل وتدخلهما لفرض رئيس جديد للجمهورية، هو بشير، يمثّل وصوله إلى المنصب تهديداً مباشراً لدور دمشق ومصالحها في لبنان. حينذاك قال المؤيدون لمقاطعة جلسة الانتخاب إنها جزء من اللعبة الديموقراطية، وقال المتحمسون إنها تعطيل للنصاب الدستوري يرمي إلى إحداث فراغ دستوري. وهو السجال نفسه الدائر حالياً بين قوى 14 آذار والمعارضة. وكانت انتخابات 1976 و1982 ـــــ إلى انتخابات 1970 ـــــ هي الاستحقاقات الرئاسية الوحيدة التي أجريت بلا توافق سابق على الرئيس الجديد للجمهورية. على أن ما ميّز استحقاقي 1976 و1982 أن المعركة الدستورية والسياسية خلالهما خيضت في مجلس النواب والشارع في آن واحد وفي ظل تدخّل خارجي، في حين ظلّ استحقاق 1970 داخل قاعة مجلس النواب، ولم يتّسم التدخل الخارجي فيه بطابع الفضيحة.
كان مقاطعو انتخابات 1976 من أوزان صائب سلام وكمال جنبلاط وريمون إده وحسين الحسيني وأمين الحافظ ورشيد الصلح وألبر مخيبر ومنير أبو فاضل وألبر منصور وإدوار حنين ومخايل ضاهر وأعضاء كتلهم النيابية، ومقاطعو انتخابات 1982 معظم أولئك كسلام والحسيني ومنصور وأبو فاضل، إلى نبيه بري ووليد جنبلاط. والأخيران لم يكونا نائبين إلا أنهما كانا رمزين صارخين للدفاع عن دور سوريا في لبنان، كذلك كان قد بقي من كتلة جنبلاط نائبان هما توفيق عساف وفريد جبران بعدما غادرها النائبان الآخران فؤاد طحيني وسالم عبدالنور إلى الاقتراع لبشير.
على نحو مشابه تبدو انتخابات 2007 مصيرية ودقيقة، وفي الوقت نفسه تفضّل قوى 14 آذار ألا تُحمل على الرضوخ لتحقيق تسوية في سبيل إجرائها. وفي واقع الأمر فإن سلسلة المواقف الأخيرة، داخل قوى 14 آذار أو في صفوف المعارضة وفي أهداف الجهود الدبلوماسية، تجعل الاستحقاق بين أحد خيارين: مرشح توافقي يكتمل به نصاب الثلثين، أو حكومة ثانية تقود الوضع الداخلي إلى فراغ وفوضى. وهو ما تعكسه، على الأقل، المعطيات المحيطة بسلسلة المواقف تلك فضلاً عمّا قالت به بكركي:
1 ـــــ لم يعد من الممكن فصل اكتمال نصاب الثلثين عن الاتفاق على مرشح تسوية. بل بات الأمران متلازمين تماماً: لا اكتمال لنصاب جلسة الانتخاب من دون توافق مسبّق على الرئيس الجديد. وتالياً فإن مناورة كل من قوى 14 آذار والمعارضة في توجيه الاستحقاق في المنحى الذي يريده هذا الفريق أو ذاك لنفسه باتت ضيقة. لا الغالبية متمكنة من السيطرة على الأكثرية المطلقة التي تملكها، وقد أضحى صمودها مهدّداً بعد جملة مواقف علنية لأفرقاء رئيسيين فيها، ولا المعارضة قادرة بدورها على استنزاف نفسها بالتهديد المستمر بمقاطعة جلسة الانتخاب. الأمر الذي يقود هذه المرة إلى فراغ وفوضى معاً.
2 ـــــ لم يعد سهلاً توقع انتخاب رئيس للجمهورية من قوى 14 آذار ـــــ كما تشترط هذه ـــــ من دون أن يكون ثمرة اتفاق بينها وبين المعارضة، ما دام الطرفان يسلّمان بنصاب الثلثين. وليس في صفوف الغالبية مرشّح تقبل به المعارضة توافقياً حسب ما تشير إليه أوساطها. وكما تتصرّف قوى 14 آذار على أن لديها أحد مرشحين قويين للرئاسة هما النائب بطرس حرب والنائب السابق نسيب لحود، تقول المعارضة بدورها إن مرشحها القوي هو الرئيس ميشال عون.
3 ـــــ رغم تشديد المبادرة الفرنسية على مواصلة الحوار اللبناني ـــــ اللبناني، فإن توسّع نطاقها إلى دمشق بعد طهران يعبّر عن أهمية التأثير الإقليمي في استحقاق لا يَقْصر دور الرئيس على إدارة الحياة السياسية اللبنانية، بل يجعله شاملاً العلاقات اللبنانية ـــــ السورية، وموقع لبنان في تجاذب الخلافات الإقليمية والدولية. وتبعاً لذلك فإن الرئيس التوافقي هو المرشح التوافقي الذي تتقاطع عنده المصالح الفرنسية والأميركية والسورية والإيرانية والسعودية.