إبراهيم الأمين
اعتاد الجيش الإسرائيلي في حروبه السابقة مع العرب على اعتماد لغة مخاطبة تعكس فوقية دائمة إزاء الخصم. وأظهرت الحرب الأخيرة أن أي تبدل لم يحصل لدى العدو في هذا الجانب. تصرفت الوحدة المعنية بإحباط العدو وفق آليات تعود إلى عقود خلت. وأظهرت نقصاً استثنائياً في معرفة واقع الجهة المقابلة. لم يكن هناك أي تطوير في آليات العمل ولا في الوسائل المستخدمة ولا في النصوص المعدة لإنهاك الخصم وإحباطه


فجأة بدأت الصواريخ تنهال على إسرائيل، فعاد المقاوم إلى الموجة الأولى ليقول للجنديّ الإسرائيلي: «حسناً، أين كنّا في الحديث؟».
ليس معلوماً بعد من بدأ حرب الرسائل الهاتفية القصيرة في الحرب الأخيرة: إسرائيل أو حزب الله. في قيادة الجيش الإسرائيلي وحدة متخصصة بالحرب النفسية. لكن الذي حصل أن هواتف الإسرائيليين كانت تستقبل رسائل ترد من أرقام من خارج البلاد، فيها رسائل قصيرة تقول: «رئيس حكومتكم ينفذ خطة أميركية، هو لن يعيد الجنود الأسرى، وهو يرمي بأولادكم في حفر الموت». وفي رسالة أخرى كتب: «اخرجوا من منازلكم الآن، سيقصف حزب الله منطقتكم، حكومة إسرائيل تخدعكم وترفض الاعتراف بالفشل».
حار العاملون في شبكة «أورانج» في التثبت من مصدر الرسائل. وحتى الجيش لم يكن واضحاً له إذا ما كان حزب الله وراء هذه الرسائل التحذيرية، أم أنها نكات من مشتركين آخرين بالشبكة. أما المواطنون أنفسهم فأصيبوا بالذهول. ونقلت الصحافة الإسرائيلية عن شموليت موريد من أور عكيفا قولها: «سرعان ما فهمت أن شخصاً ما استطاع الدخول إلى الشبكة، وهذا طبعاً ليس تصرّفاً فردياً، إنها حربهم النفسية، فالرقم آت من الخارج، وليس رقماً معروفاً. ابنتي أيضاً تلقت رسالة على هاتفها المحمول، أشعر بضغط... لقد وعدوا بأنهم سيقومون بأشياء، وهم فعلاً يقومون بها... على أية حال ربما جاء دورنا، ونحن ننظم أنفسنا».
إسرائيلي آخر هو أوري غولدبرغ من هرتسيليا قال: «تلقيت الرسالة بشكل مفاجئ. تملكتني الصدمة، وارتعبت بعض الشيء، لكن لا خوف كبير، فلأتعاطَ مع الأمر بجدية، لا يبدو لي أن شخصاً ما يرسل رسالة لكي يحذرني من قصف مستقبلي».
وعد الجيش بالقيام بما يلزم لمنع تكرار الأمر، أما الشركة المعنية فقالت إن الرسائل تأتي «من المحيط الهادئ».
حتى اللحظة يرفض حزب الله التعليق على الأمر. وهو أصلاً لا يتحدث عن أشياء كثيرة حصلت في تلك الحرب. ويتصرف على أساس أن الحرب لا تزال مستمرة. يدقق في كل ما تقوله إسرائيل، حكومة ووسائل إعلام ومتخصصين، إلا أنّه يفضل الصمت. لكنه يشير إلى أن إسرائيل حاولت أن تستخدم الحرب النفسية رداً على ما يراه الحزب الأثر البالغ الأهمية الذي تركه خطاب أمينه العام السيد حسن نصر الله في نفوس الإسرائيليين. ويبدو أن في المقاومة من يفضل أساليب متنوعة، منها ما يتصل بالخطاب السياسي المرفق بأعمال على الأرض، ومنها ما يتصل بالجنود أنفسهم.
الوحدة المتخصصة في جيش العدو كانت تركز على الشقين أيضاً، على المقاومين وعلى الجمهور. في مكان ما في القيادة، كان هناك من يعد المناشير والرسائل الإلكترونية والبريد الصوتي على هواتف المواطنين. وفي الميدان كان هناك ضباط يتحدثون بواسطة أجهزة اللاسلكي أو عبر مكبرات الصوت. وكانت الحصيلة الإجمالية: لا شيء. وعندما توقفت الحرب، خرج من تل أبيب المتخصصون في الحرب النفسية يستنكرون ما قامت به قواتهم، ويضحكون من الأساليب التي لا تنفع في معارك كهذه، والتي تركت انطباعاً هزلياً عند الخصم من المقاتلين ومن الجمهور أيضاً.
اخرجوا نحن بانتظاركم
من على تلّة الراهب المشرفة على بلدة عيتا الشعب، وقف ضابط برتبة عقيد عرّف عن نفسه باسم «الكولونيل غازي». كان يتحدث بعربية غير صافية. كانت لكنته فلسطينية وتعرف إليه المقاومون مثل ضباط التحقيقات. كان يحمل مكبّر الصوت ويتوجّه إلى المقاتلين في الجبهة المقابلة: «يا مناضلي عيتا الشعب، عليكم بالاستسلام ولا جدوى من مواجهة جيش الدفاع، في حال استسلامكم نضمن لكم معاملة حسنة إنسانية بحسب اتفاقية جنيف للأسرى وأن تعودوا قريباً إلى عائلاتكم»... أو «يا مناضلي عيتا الشعب، سلموا أنفسكم، لأن مسؤوليكم سلّموا أنفسهم أو قتلوا، وأي مخبأ لن يصمد أمام قدرة جيش الدفاع».
كان إلى جانب غازي، ضابط آخر عرّف عن نفسه باسم الكولونيل نادر. كان الأخير يمثل دور الرجل القاسي. وبعد أن اعترض ورجاله اتصالات المقاومين عبر أجهزة اللاسلكي، كان يتوجه إلى المقاومين بأسمائهم العسكرية: «اسمعوا، انتم تعرفون أننا سوف نصل إليكم حيث كنتم، أنتم تعرفون أن تبادلاً للأسرى سوف يحصل في نهاية المطاف، سلِّموا أنفسكم وانجوا من الموت، وغداً تعودون إلى عائلاتكم. سوف أدلكم على الطريق الآمن، سوف تسلكون هذه الطريق الفرعية وتسيرون بضعة أمتار ونكون نحن بانتظاركم. لا تخشوا شيئاً. فقط ألقوا الأسلحة».
كان هؤلاء يعرفون أن الأمر لا يعدو أكثر من نكتة. وبعد أن يمر الوقت لنصف ساعة أو أكثر، يخرج نادر أو غازي فجأة، وهذه المرة عبر مكبرات الصوت: «أحسنت، اقترب من هنا، أنا أراك جيداً، تقدم من هذه الناحية أنت ورفاقك». وكانوا يتعمّدون أن يسمع الجميع من المقاتلين هذا الكلام الوهمي. كانوا يفترضون أن المقاومين سيصيبهم الشك بأنّ رفاقاً لهم قد استسلموا».
وبعد أن يضيق هؤلاء ذرعاً، يظهر التوتر فجأة على كلامهم. وذات يوم اعترض الإسرائيليون اتصالاً بين مقاومين: كان الأوّل يطلب من الثاني أن «يطلع 2 يمين» ليتحدث معه، فما كان من الإسرائيلي إلا أن دخل على الموجة وقال: «بتطلع 2 يمين أو بتنزل 2 شمال، سوف أدمّر عيتا الشعب على رأسك»... لكن واقع الحال أن المقاومين الاثنين، كانا في قرية أخرى، وبعيدة عن عيتا الشعب!
وبعد اشتداد المعركة في مارون الراس، تعرف الإسرائيليون إلى المكان. كانوا قد رصدوا اتصالات مكثفة من جانب المقاومة. كانت حركة الاتصالات تربكهم في إحصاء عدد المقاومين في المكان. وبعد تعرض العدو لضربات كبيرة، عمد أحد ضباطه إلى اعتراض موجة كان يتحدث عبرها ضابط في المقاومة، كان الإسرائيليون يعرفون صوته جيداً، ويعرفون اسمه العسكري وقال له: «اسمع يا فلان... سوف آتي إليك الآن وافعل بك وبأمّك واختك كذا وكذا». رد الأخير: «أنا مشغول الآن، لكن سوف أتفرغ لك مساء، انتظرني».
مع الوقت. كان المقاومون يخرقون بين الحين والآخر التعليمات بعدم التحادث مع ضباط العدو وجنوده. لكن البعض منهم كان يتسلى على ما يقول. وذات ليلة، كان ضابط اتصال إسرائيلي يعترض موجة لأحد عناصر سلاح الإشارة في المقاومة، وكان يقول له كلاماً كثيراً عن ضرورة الاستسلام وخلافه. كان المقاوم قد سمع الكثير من هذا الكلام. لكنه تلقّى برقية تفيد بأنّ على المقاومين إطلاق دفعة من الصواريخ، فتوجّه إلى الإسرائيلي وقال له: «ابقَ معي، سوف أغيب للحظات، عليّ توجيه أمر عمليات». لحق الإسرائيلي به على الموجة الجديدة، وسمعه يتحدث إلى مجموعات كثيرة ويعطي أرقاماً غير مفهومة، وفجأة بدات الصواريخ تنهال على إسرائيل، فيما عاد المقاوم إلى الموجة الأولى ليقول للإسرائيلي: «حسناً أين كنّا في الحديث؟».
في مكان آخر. يروي عدد من المقاومين الذين خاضوا الحرب مع الجيش الإسرائيلي في مدينة بنت جبيل، أنهم تلقوا رسائل عبر موجات الاتصال المعتمدة لديهم، وفيها معطيات مضخمة عن خسائر حزب الله في المدينة نفسها التي يعلم المقاومون فيها حجمها الحقيقي، من بينها إشاعة أسماء مقاومين على أنهم قتلى، بينما هم في الواقع كانوا من بين المستمعين للإرسال الإسرائيلي الذي ينعاهم، أو ذكر أماكن في المدينة على أنها باتت بيد الجيش الإسرائيلي، علماً بأن بعض المستمعين لهذه الاتصالات كانوا في الأماكن التي أُشير إليها.
آلية عمل العدو
كان واضحاً أن الهاجس الأساسي الذي حكم الفعل الإسرائيلي في الحرب هذه، هو الأمين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصر الله والكاريزما التي يتمتع بها أمام جمهوره وجمهور عدوه على حد سواء. وألقى الجيش الإسرائيلي عدداً كبيراً من المناشير الكاريكاتورية التي لم تجدِ نفعاً لدى جمهور المقاومة، وهي بطبيعتها غير موفقة وأدت إلى مفعول معاكس، بل ووجهت بانتقادات من منظِّرين إسرائيليين في الحرب النفسية وعلم النفس لعدم جدواها.
التشويش
وشهد سكان بيروت وبعض مناطق الجنوب اعتراضاً لصورة تلفزيون «المنار» من أجهزة التشويش الإسرائيلية، كما استخدمت موجات البث الخاصة بإذاعة «صوت الشعب». وبثّ العدو شريطاً مصوراً مشغولاً للأمين العام لحزب الله يتم التهديف عليه وإطلاق النار على رأسه، ثم تجري عملية مخاطبة لكوادر ومقاتلي «حزب الله» بأنّ الموت آت وسينال منهم.
كذلك جرى استخدام صور شهداء كانوا سقطوا في المعارك، بأسلوب يخالف أبسط القواعد العملية للحرب النفسية التي تتطلب الضغط النفسي بغية إقناع عدوك بوسائل مساندة، لا العمل على استفزازه وإعطائه جرعات تحثه على القتال.
الاتصالات بالمواطنين
استفاد الإسرائيليون أيضاً من تقنية الاتصال عبر الإنترنت للتسلل إلى الهواتف الخلوية وبث رسائل تهديد ووعيد. وتلقى عدد كبير من المواطنين من أرقام تظهر أنها من خارج لبنان (وسيلة إنترنت)، كلمات بالعربية تتوعدهم إذا هم ساعدوا المقاومين أو حموهم، إضافة إلى التحريض على الأمين العام لحزب الله.
في الأيام المتقدمة من العدوان، أي في مرحلة إقحام قوات برية والسيطرة على بعض الأماكن في الجنوب، تلقى عدد من المواطنين اتصالات على الهواتف الثابتة، أشار البعض منها إلى أن المصدر من هواتف لبنانية في الجنوب وبعضها من دون مصدر معلوم.
الطريف في هذه الاتصالات، بحسب ما يروي بعض سكان القرى في الجنوب، أنها كانت تستهدف مسؤولي المقاومة وعناصرها، إذ تلقى أصحاب هذه الهواتف تهديدات على أنهم مقاومون محددون وبالأسماء، فيما كان المتلقي غير ذي صلة بالشخص المقصود، والبعض منهم ليس له علاقة من بعيد أو قريب بحزب الله.
ورغم أنه جرى تسجيل نجاح محدود للجيش الإسرائيلي في إصابة هواتف بعض عائلات الشهداء وإبلاغها استشهاد أبنائها، إلا أن ذلك لا يتعدى كونه تشفياً يزيد كراهية المتلقي على الكراهية التي يحملها تجاه الإسرائيلي، بل يزيد من دافعيته لمواجهته ومحاربته، وهي مخالفة لأبسط قواعد الحرب النفسية ومبادئها واستهدافاتها.
إلقاء المناشير
حرص الإسرائيلي على إلقاء عدد كبير جداً من المناشير لنقل رسائل «تذكر» المواطنين بقدرة الجيش الإسرائيلي وفاعليته في الوصول إلى أي مكان في لبنان والنيل ممن يتعاون مع حزب الله.
لم تحد هذه المناشير عن الخط العام الذي حكم رسائل اعتراض البث التلفزيوني والإذاعي والرسائل المرسلة عبر الهاتف الخلوي، ويمكن توصيفها أيضاً بأنها خلت من الرؤية والفهم الموضوعيين لجمهور المقاومة. وظهر جلياً أن الإسرائيلي قد استحضر في مضمون الرسائل الموجه عبر المناشير، فهمه وإدراكه المستند إلى قوالب مسبقة تصلح لأمكنة أخرى، ما يعطي الانطباع بسوء فهم وتقدير لواقع الأمر.


حدث في 20 تموز
في وقت كانت ترد فيه أخبار انتصارات المواجهات البطولية للمقاومة في بلدة مارون الراس بعد محاولات تقدّم فاشلة للقوات الإسرائيلية، أطلّ الأمين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصر الله في مقابلة على قناة «الجزيرة» أعلن فيها أنه «لو جاء العالم كله فلن يستطيع استرداد الأسيرين من دون مبادلة». ورأى أن «الإسرائيليين بلغوا الذروة جواً وبحراً وصار الخيار البري محتملاً، ونحن جاهزون له منذ اليوم الأول، وهم قد يتمكنون من الدخول إلى الأراضي اللبنانية وما نتعهد به هو أنهم سيدفعون ثمناً كبيراً في دباباتهم وضباطهم وجنودهم وسنحوّل الخيار البري إلى كارثة عليهم».
أما وزير الدفاع الإسرائيلي عمير بيرتس فكان يهدّد باجتياح لبنان براً إذا كان ذلك ضرورياً «لا ننوي احتلال لبنان، لكن إذا أجبرنا على القيام بعمليات توضح أننا نستطيع الوصول إلى أي مكان لإنجاز مهمتنا فلن نتردد في القيام بذلك».
ولتحقيق هذا الانتصار لم يجد الإسرائيليون إلا قصف معتقل الخيام الذي انهالت عليه عشرات الصواريخ محوّلة إياه إلى كتلة من الركام، فيما ارتكبت مجزرة في عيناتا. وطاول القصف مناطق مختلفة من لبنان وصولاً إلى عكار.
وفي خطوة تؤكد إعطاء المزيد من الوقت للإسرائيليين لتنفيذ مهمتهم، تواصلت عمليات إجلاء الرعايا الأجانب وكانت العملية الأكبر لآلاف الأميركيين الذين شارك جنود مارينز أميركيون في عملية إجلائهم، كما واصل الفرنسيون العملية ذاتها، فيما أعلنت سويسرا تنظيم نقل بحري لرعاياها من لبنان.