strong>مهى زراقط
يكفي أن تذكر اسم «معتقل الخيام» أمام أيّ أسير محرّر منه، لتدرك ماذا يعني فعلاً التدمير المنهجي الذي تعرّض له ليل 19ـــــ 20 تموز الفائت عندما انهالت عليه عشرات الغارات محوّلة إياه إلى كومة من الركام.
أحمد نصر الله، الذي لم يوافق يوماً على إجراء مقابلة صحافية، تلمع عيناه عندما يسمعنا نطلب من زوجته فريدة رسلان مرافقتنا إلى المعتقل وإجراء مقابلة على أطلال المكان. «روحي ع المعتقل» يقول رجائي أبو همّين عندما نصل إلى مفرق طريق تؤدي إلى بلدة الخيام، وعندما تغيّر السيارة مسارها نزولاً عند رغبته يحسّن جلسته كأنه يتحضّر للحظة اللقاء.
المكان عزيز على قلوبهم. رجائي أمضى فيه ثماني سنوات، وفريدة ست سنوات، وأحمد أربع سنوات. والثلاثة يكرّرون جملة واحدة لدى السؤال عن سبب كل هذا الحزن على تدمير المعتقل: «كنت أريد أن آتي بأولادي عندما يكبرون وأخبرهم عمّا حصل. كيف تحرّر الجنوب، وماذا فعل الإسرائيليون وعملاؤهم».
هذه الإجابة الجامعة تسهّل البحث عن أسباب لتدمير المعتقل بهذه الطريقة: محو الذاكرة. المعتقلون كانوا ينتظرون أن يكبر أطفالهم «ليأخذوا التاريخ من مصدره» تقول فريدة. لكن آلة الدمار الإسرائيلية، التي لم تنجح في تدمير عزيمتهم، دمّرت جزءاً من ذاكرتهم... هل دمّرته فعلاً؟
لن ينام أحمد بعد الغداء كعادته، وسيوافق على مرافقة فريدة إلى المعتقل، بل يرحب بالموضوع ويدعو أطفاله إلى الهدوء ليرافقونا أيضاً. قبل الحرب، كان يخطط هو وأصدقاؤه لأن يمضوا يوماً كاملاً فيه. 24 ساعة يستعيدون فيها جزءاً من عمرهم. وقعت الحرب «التي لم يحصل مثلها سابقاً» وأجّلت هذه الرحلة.
في الطريق من حولا إلى الخيام يحكي أحمد عن الأثر الذي تركه في نفسه تدمير المعتقل. «زعلان كثير...» ليست جملة عادية يكرّرها، وخصوصاً أنها تصدر عن رجل مقاوم تحمّل الكثير من آلام هذه الحياة. زوجته فريدة حزينة أيضاً. المعتقل بالنسبة إليها ليس المكان الذي ركعت فيه أياماً طويلة وهي تُضرب ثم تغرق بالمياه الباردة فالساخنة، أو الذي تلقت فيه شحنات كهربائية... إنه المكان الذي تعرّفت فيه إلى نفسها أكثر فأحبتها. وهو بالنسبة إلى رجائي «معلم من معالم صمود هذا الوطن في وجه العدوّ». إنها «عبارت خشبية» يقول ساخراً، يكرّر: «أليس هذا ما يقولونه اليوم عن هذه المصطلحات؟ لغة خشبيةتقف فريدة رسلان على باب واحدة من الزنازين القليلة التي نجت من التدمير. هي زنزانة صغيرة، لكن يوجد فيها ما هو أصغر منها بعد. «هذا هو القن» تقول فريدة وتشير إلى صندوق حديدي وُضع في الزاوية «كانوا يسجنون فيه الرجال، زوجي أمضى شهوراً طويلة فيه».
فوق «القن» لوحة تمثل معتقلاً راكعاً: كيس أسود في رأسه، يتلقى السياط على ظهره «رسمت شيئاً مشابهاً مرة وطرزته» تقول وتدير وجهها جنوباً. ينكشف سهل الخيام، تذهب عيناها إلى البعيد وتقول: «الهواء لا يزال على حاله... هو هو».
لقد تغيّر المعتقل الذي قضت فيه فريدة ست سنوات من عمرها (1988ـــــ 1994). تغيّر مرتين، مرة بعدما خرجت منه ودخل إليه الصليب الأحمر الدولي فــــــــارضاً إجراء تحسينات عليه. والمرّة الثانية عندما دمّرته إسرائيل الصيف الماضي. «عندما كنت في المعتقل لم يكن الصليب الأحمر قد دخل إليه بعد، لم نعرف شيئاً من التحسينات مثل وجود مرحاض أو «مجلى»... كلّ ما كنت أحلم به في المعتقل أن يسمحوا لنا بإدخال الكتـــــب، لكن هذا ما سمحوا به بعد الإفراج عني».
قبل الوصول إلى الزنازين القليلة الناجية من الدمار، كانت فريدة تحاول معرفة مكان سجن النساء. «هنا... لا هنا...» تضيع قليلاً، تحاول استعادة تفاصيل المكان، تشير إلى بقايا غرف صغيرة وتقول: «أعتقد أنه كان هنا... هذه الحمامات التي كنّا نستحم فيها وهو كان قريباً منها». كيف عرفت؟ تضحك... في المعتقل تصبح التفاصيل الصغيرة كبيرة... هي كل العالم الذي يدور في فلكه الإنسان: «بلاط الجدران الأبيض هو ما
دلّنيلم يتغيّر إحساس فريدة بالمكان. الحنين نفسه يسيطر على جوارحها. لماذا
الحنين؟
«لأنه المكان الذي عشت فيه مرحلة من العمر لا يمكنني أن أنساها. كانت مرحلة حلوة ومرّة وتركت أثراً كبيراً في نفسي. صحيح أنه ركام لكنه لا يزال يختزن كلّ ذكرياتي».
وكما زوجها الذي كان يخطط لرحلة إلى المعتقل، تعترف فريدة أيضاً بما كان يخطر لها أحياناً من أفكــــــار: أن تعود إلى المعــــــــــتقل وتمضي أياماً فيه «أستعيــــــــــد طمأنينة أفتقدها. روحانية». تشرح أكثر: «في تلك المرحلة أنا كنت مسؤولة عن نفسي في كل شيء. أفرض الأمور التي أريدها وأرفض ما لا أريده رغم أني كنت في معتقل. كان امتحاناً، ومن يشعر بأنه كان ناجحاً فيه لا يمكنه إلا أن يشعر براحة كبيرة».
فرق كبير بين زيارات فريدة إلى المعتقل بعد تحريره، وبعد تدميره. في المرات السابقة كانت تدخل إلى الزنازين التي تنقلت بينها «وأتذكر في كلّ منها ما مرّ بي من أحداث. كنت أفتش على عبارات كتبتها على الجدران ووجدت بعضها».
هذا ما كان يفعله رجائي أيضاً. يفتش عن ذكرياته في الزنازين التي كانت لا تزال صامدة «كان اسمي لا يزال محفوراً على جدران واحدة من الزنازين».
بالنسبة إلى رجائي، تشبه مشاعره لدى زيارته المعتقل المشاعر ذاتها التي تجتاحه كلّما زار موقعاً لعملية من عمليات المقاومة أو مكاناً شهد نضالاً من النضالات في وجه العدو.
يعبر رجائي بسرعة مدخل المعتقل ويسلك الطريق المؤدية إلى الزنازين المهدّمة. «رأيت هذه الساحة مرة واحدة خلال 8 سنوات قضيتها فيها، عندما نقلوني مرة من زنزانة إلى زنزانة بين سجنين مختلفين». بالتحديد، قبل عملية «الهروب الكبير» التي نفّذها أربعة أسرى في عام 1992 (داود فرج ومحمد عساف وسعود أبو هدلة ومحمود رمضان، نجح فرج وعساف في الوصول إلى بيروت بعد ثلاثة أيام، فيما أعيد اعتقال أبو هدلا ورمضان بعد أن أصيب الأخير بجراح خطرة بسبب انفجار لغم أرضي فيه أدى إلى بتر يديه).
للمعتقل تواريخه الخاصة بالنسبة إلى المعتقلين. عملية الهروب مقياس زمني مهم، وكذلك الانتفاضة الشهيرة التي سقط فيها شهيدان: بلال السلمان وإبراهيم أبو عزة. يقف رجائي أمام صور شهداء المعتقل ويروح يتذكرهم واحداً واحداً. منهم من عرفه ومنهم من سمع عنه. «هيثم دباجة... يا حرام على هيثم، قتلوه عمداً».
عندما يصل رجائي إلى ساحة التعذيب، أو ما كان يسمّى كذلك. يبتسم بسخرية: «كل شي وقع إلا العمود».
إنه العمود الشهير، يشبه أعمدة الكهرباء الحديدية المنتشرة في لبنان: «أكل من جنابي»... يصمت قليلاً قبل أن يتابع من دون أن يطرح عليه أي سؤال: «كنت أنا مصلوباً هنا... رياض هنا وحمدان هنا... جلد وسكب مياه... ساعات طويلة على هذا المنوال».
ساعات طويلة لا شك كان المعتقلون يصرخون فيها، وتردّد الخيام أصداء أصواتهم وعذابات مواطنين رفضوا الخضوع للاحتلال. هذا الرفض الذي سيعلمونه لأولادهم: «كنت أخطط لأن آتي بأولادي إلى هنا عندما يكبرون قليلاً لأخبرهم أين كنت ولماذا. 8 سنوات من عمري قضيتها هنا».
رجائي كان يتمنــــــى أن تهتـــــم وزارة الثقـــــــافة بالمعتقل وتحوّله إلى متحف وطني، لكنها لن تبـــــــادر إلى ذلك. أمـــــــا الآن فهو يرفض فكرة ترميمه «يمكن من الأفضل أن يبقى على هذه الحالة، ما فعله الإسرائيليون بالمعتقل دليل إضافي على ما ارتكبوه
بحقنا».
هذا الرأي تشاطره إياه فريدة التي لم تستغرب أن يدمّروا المعتقل: «هذه طبيعتهم. الذي يقتل البشر لن يكون صعباً عليه أن يدمّر الحجر. دمّروه لأنه يكشفهم على حقيقتهم. لأن كل من كان يزور المعتقل كان بوسعه أن يعيد اكتشاف همجيتهم».
تؤكد فريدة أن تدمير المعتقل لن يستطيع محوه من ذاكرة اللبنانيين «قصة المعتقل مرتبطة بقضية المقاومة. إذا استطاعوا أن يمحوا تاريخ المقاومة عندها فقط يمكنهم محو تاريخ المعتقل».
قضية المقاومة ليست مقاومة عسكرية فحسب، بل تربية سيتوارثها الجنوبيون جيلاً بعد جيل: «سيأخذ أطفالي تاريخ هذه الأرض مني ومن أمثالي، أي من مصدره، من ناسه ومقاوميه... ليس الحجر وحده ما يعيد كتابة التاريخ».