إعداد عساف أبو رحال
ست سنوات مرّت على تحرير الجنوب، ومعتقل الخيام على حاله. لم يبادر أحد من الدولة اللبنانية إلى الاهتمام به وتحويله إلى متحف أو مزار، حتى جاءت آلة الحرب الإسرائيلية وكشّرت عن أنيابها التدميرية لتغطية معالم جرائمها التي ارتكبتها فيه على امتداد 15 عاماً.
كان المعتقل، قبل الاحتلال وإقامة ما يسمى الحزام الأمني، ثكنة عسكرية بناها الفرنسيون على حدود منطقة انتدابهم سابقاً في مواجهة الانتداب البريطاني في فلسطين سنة 1933.
مع الاستقلال وزوال الانتداب تسلمتها الدولة اللبنانية وحافظت على دورها ثكنة عسكرية على بعد مئات الأمتار عن الحدود الدولية شأنها شأن باقي الثكنات العسكرية في مناطق لبنانية أخرى. ومع الاجتياح الإسرائيلي في آذار 1978 كانت الثكنة تنتظر ترميماً بعد معارك تبادل السيطرة على بلدة الخيام، وهذا ما فعلته إسرائيل فحوّلتها بداية إلى مركز استجواب وتحقيق مقابل مركز القيادة والتجمع العسكري الأساسي في ثكنة مرجعيون.
مع إقفال معسكر أنصار في عام 1985 ونقل أعداد كبيرة من «نزلائه» إلى معتقلات داخل إسرائيل وما رافقه ذلك من احتجاج دولي تحوّلت ثكنة الخيام إلى سجن كان يكبر يوماً بعد يوم مع تزايد عدد المعتقلين فيه، رجالاً ونساء وشيوخ وأطفال. واكتسب السجن شهرة واسعة داخل وخارج الشريط المحتل سابقاً، وبات رمزاً لسياسة القمع الإسرائيلي منذ عام 1985 وحتى التحرير في عام 2000.
وكان معتقل الخيام قد باشر مهامه بعدد وافر من المعتقلين قارب المائتين مع افتتاحه مطلع عام 1985، بعضهم من معسكر أنصار والبعض الآخر كان قيد الاستجواب والتحقيق في ثكنة الخيام التي لم يكن لها بعد صفة السجن بعد، وتجاوز عدد الأسرى فيه أحياناً ألف معتقل.
بقي هذا المعتقل بعيداً عن الأضواء سنوات طويلة، مُنع خلالها أي شخص من الدخول إليه، وكذلك المنظمات الإنسانية، وعاش المعتقلون ظروفاً إنسانية بالغة السوء. وكانت قيادة ميليشيا أنطوان لحد تردد أنها المسؤولة عن إدارة أمور السجن لتبرئة إسرائيل مما يدور في داخله من تعذيب أدى أحياناً كثيرة إلى القتل المباشر. إلا أن تقريراً أصدرته «منظمة العفو الدولية» في عام 1992 كشف أن «الحضور الإسرائيلي كان كثيفاً ومباشراً، فالاستجواب الأساسي كان يتم على يد ضباط إسرائيليين بثياب مدنية، والقرار الأول والأخير كان يعود لهم». ولاحظ التقرير «أن حركة الإسرائيليين خفت داخل السجن بدءاً من عام 1988» وسجل تراجعاً عن التدخل المباشر في شؤون المعتقلين إلا في الأمور والعمليات المتعلقة مباشرة بقوات الاحتلال.
وإذا وضعنا جانباً روايات المواطنين والمعتقلين المحررين عن معاناتهم ووسائل تعذيبهم، نذكر ما رواه الضابط النروجي «فيدار ليهمان»، وهو طبيب كان يعمل آنذاك ضمن نطاق فريق مراقبة هيئة الأمم المتحدة الخاصة بلجنة الهدنة بين لبنان وإسرائيل: «كان التحقيق مع المعتقلين يستمر عدة أشهر أحياناً، وكانت لحراس السجن والمحققين صلاحيات مطلقة في استعمال ما يرونه مناسباً لنزع الاعترافات من المسجونين». يضيف أن الطبيعي في ممارسات التعذيب «أن يعلق المعتقلون بالسقف و«بالمقلوب» أحياناً وبالكاد تلامس أرجلهم الأرض وأثناء ذلك ينهال أفراد الميليشيات والجنود الإسرائيليون على الأسرى ضرباً بالعصي، بعدها يجبرون على الركوع ليضربوا على أقدامهم مع صب الماء البارد أو الساخن». ويرى ليهمان أن هناك وسائل أكثر وحشية تتمثل باستعمال الصدمات الكهربائية التي توجه إلى الناحية اليسرى من الصدر، ويؤكد أنه شاهد عدداً من المعتقلين، وقد ظهرت على أجسادهم علامات عدة جراء ذلك، كما يعانون كسوراً في الأطراف والأسنان.
أرسل ليهمان تقريره إلى وزارة الدفاع النروجية في عام 1992، إلا أن الوزارة لم تنشره، لأنه كان قوياً جداً ولا يمكن أن يتصور الناس أنه في أواخر القرن العشرين توجد إجراءات وأساليب تعذيب كهذه، ما دفع بالضابط النروجي إلى إرسال تقريره إلى صحيفة «آفتن بوستن» التي نشرته بتاريخ 19/4/1995.
معتقل الخيام لم يكن السجن الإسرائيلي الوحيد في الجنوب، بالإضافة إليه كان هناك العديد من المعتقلات ومراكز التوقيف التي يشرف عليها العملاء: مركز الـ17 في بنت جبيل في محلة صف الهوا، وهو بناء سكني لأحد المغتربين من أبناء البلدة، وكان يعرف باسم صاحبه (بناية البيطار)، وأطلقت عليه هذه التسمية نسبة لقوة الـ17 التابعة لحركة «فتح»، ومع احتلال بنت جبيل في عام 1978 رافقت التسمية قوات الاحتلال حتى التحرير في عام 2000.
وهناك أيضاً سجن مرجعيون وفيه كانت تتم مراحل الاستجواب الأولى على يد محققين محترفين، وعموماً إسرائيليين، وغالباً ما كان ينتهي الأمر بالخروج من سجن مرجعيون الى معتقل الخيام.
أما مركز الاستجواب الثالث فكان ثكنة زغلة التي تقع عند مثلث حاصبيا ـــــ ميمس ـــــ عين قنيا، وقد شكلت مركز التحقيق والتوقيف في منطقة حاصبيا والعرقوب بإشراف الإسرائيليين.
وفي 23 أيار من عام 2000، بعد يوم من بدء الانسحاب الإسرائيلي، اقتحم أهالي بلدة الخيام المعتقل وعملوا على فتح الزنازين بمساعدة المعتقلين الذين لم يكونوا على علم بما يدور في الخارج، في وقت كان فيه العدو وعملاؤه مشغولين في كيفية ترتيب أمور اندحارهم إلى خلف الشريط الحدودي.
وبعد التحرير تحوّل المعتقل إلى محطة وطنية استقطبت الزوار العرب والأجانب، ومنهم السياسيون والدبلوماسيون. كما استضاف في ربيع عام 2002 ستين فناناً عربياً شاركوا في افتتاح الملتقى الفني التشكيلي، إضافة إلى ممثلي 50 دولة زاروه خلال جولة تفقدية للخط الأزرق. وكانت وتيرة النشاطات متسارعة لم تستكن حتى في أحلك الظروف الجوية العاصفة، ما جعل من المعتقل منبراً تزاحمت حوله الأقدام. ولم تغب من الذاكرة صورة الحافلات السياحية التي انتظمت يومياً طوال السنوات الماضية على الطريق المؤدية اليه عند آخر تلة في الجنوب الشرقي من لبنان. هذه النقطة التي يمكن أن تكون أي شيء إلا سجناً ما زالت تخبر عن الآلام التي صنعت النصر وينبغي أن يقام عليها شيء ما يشير إلى المستقبل بالقوة نفسها التي دمر بها الاحتلال المعتقل في حرب تموز.
تدمير معتقل الخيام لم يثن الجنوبيين واللبنانيين وبعض البعثات الأجنبية من زيارته والاطلاع على همجية العدو الذي هدف من ذلك تغطية جرائمه السابقة بجريمة دمرت معلماً وطنياً مقاوماً. كان باستطاعة الدولة تحويله إلى رمز من رموز المقاومة.