إبراهيم الأمين
يبدو أن المعركة التي يخوضها فريق 14 آذار في ما خص ملف التحقيق اللبناني والدولي في جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري، قد بلغت مرحلة متقدمة، في ظل ما كشفت عنه مصادر مطلعة من محاولات حثيثة لتعطيل أعمال التحقيق اللبناني نهائياً، وربط الملف كاملاً بيد لجنة التحقيق الدولية، وتركها مربكة إزاء ملف الموقوفين لحين إنشاء المحكمة وتعيين المدعي العام الدولي الجديد. وهو ما ظهر في الدعاوى التي يقدمها وكيل الادعاء الشخصي باستمرار ضمن مسار يهدف إلى كفّ يد المحقق العدلي الياس عيد عن الملف برمّته.
وبينما لم يبتّ القاضي سامي منصور الدعوى الأولى المقامة على عيد بتهمة محاباة وكلاء الموقوفين ونيّته إطلاق اللواء جميل السيد والعميد ريمون عازار، فإن الوجهة بدت واضحة إلى رد الدعوى، وهو رأي قانونيين كثر، بما في ذلك فريق 14 آذار الذي سارع إلى خطوة بديلة جاءت بشكل دعوى أخرى قدمت إلى القاضي رالف رياشي قبل أسبوع وفيها طلب نقل الملف من القاضي عيد إلى قاض آخر لأن «هناك ارتياباً مشبوهاً به»، على ما جاء في الحيثية، التي اتهمت القاضي عيد بتلقّي «بونات» بنزين من الأمن العام في عام 2004 يوم كان اللواء السيد مديراً عاماً لهذا الجهاز. وأرفقت الدعوى بمستند من موجودات الأمن العام المفترض أنها سرية يتضمن قائمة بأسماء ضباط من المديرية وقضاة يتلقّون هذه المساعدة، ومنهم القاضي الياس عيد.
ومع أنه لم يتحدث أحد بعدُ عن هذه الدعوى، فإن القاضي رياشي عمد على ما يبدو إلى إبلاغ عيد أنه بات في معرض دراسة الملف، وهو ما يحتم عليه الطلب إليه التوقف عن اتخاذ أي قرار بشأن موجودات الملف. وهي الخطوة المطلوبة من فريق 14 آذار لمنع عيد من استعادة دوره بعد قرار القاضي منصور، والعمل على إصدار قرار بشأن طلبات وكلاء الدفاع إخلاء سبيل الموقوفين على ذمّة التحقيق.
في هذه الأثناء، عمد المحامي أكرم عازوري إلى إعداد دعوى يطلب فيها كفّ يد القاضي رياشي عن المهمات المنوطة به، بدعوى أن فريق الادعاء الشخصي تحدث عنه بمحاباة ولأنه قبل تمثيل وزير العدل شارل رزق في مهمات، وهو ما يجعله واقعاً ضمناً تحت تأثير السلطة السياسية، الأمر الذي يوجب برأي عازوري، إبعاده عن الملف. لكن عازوري لم يكن قد وجد قلماً في قصر العدل ليسجل فيه دعواه هذه، الأمر الذي منعه من تعطيل القاضي رياشي الذي عمد إلى استباق أي محاولة في هذا الصدد وطلب إلى عيد التوقف عن إدارة ملف التحقيق ريثما يبتّ الدعوى المقامة عليه.
غير أن كل هذه المجريات القانونية لا تخفي الخلفية السياسية لهذا التحرك، بعدما أظهرت معطيات المحقق الدولي سيرج براميرتس خلوّها من إشارات جدية توجب توقيف الضباط الأربعة وباقي الموقوفين، وليس أمراً عاديّاً أن يلجأ مسؤول دولي مثل القائد السابق لقوات الطوارئ الدولية الجنرال ألان بلّيغريني إلى الحديث عن الموضوع من زاوية اتهام السياسيين اللبنانيين بالتلاعب بالتحقيق من خلال التأثير الواضح على الرئيس السابق للجنة التحقيق القاضي الألماني ديتليف ميليس، ثم قوله صراحة إن سبب استمرار توقيف الضباط الاربعة يعود إلى الضغط الذي تمارسه الولايات المتحدة الأميركية على مجلس الأمن الدولي، وهو نفسه الذي اتهم الجهات التي موّلت مجموعات جند الشام في محلة التعمير القريبة من مخيم عين الحلوة في صيدا بالوقوف وراء تمويل مجموعات «فتح الإسلام» ونشاطاتها في نهر البارد، وقوله إنه سبق أن سلّم السلطات اللبنانية قبل مدة غير قصيرة معلومات عن «نشاط إرهابي يُعدّ له في مخيم نهر البارد».
ومع أن بلّيغريني لا يمثّل في هذه اللحظة أي دور رسمي، فإن الجميع يعرف موقع الرجل في الإدارة الدولية للوضع اللبناني يوم كان يمارس مهماته. وهو المناخ الموجود أصلًا لدى مسؤولين آخرين لا يزالون في مهماتهم في الإدارة الدولية نفسها، وثمّة من يقول إن من المفيد دعوة الممثل الشخصي للأمين العام للأمم المتحدة غير بيدرسون إلى التقدم بإفادته أو الاستماع الى شهادته في هذا الموضوع، لما يعرفه من تفاصيل تخصّ المرحلة التي عمل فيها ميليس على توقيف الضباط الأربعة.
وبحسب المتابعات القائمة الآن، فإن استراتيجية فريق 14 آذار تقوم على فرض مجريات وحجج تمنع إخلاء سبيل أيّ من الضباط الأربعة الآن، لا لأن في ذلك ما يضر برنامجه السياسي الخاص بالتحقيق نفسه، بل لما يعتقدون أنه نسف للأساس السياسي الذي قامت عليه الحركة الانقلابية التي نفّذها هذا الفريق قبل نحو عامين وسيطر بموجبها على معظم إدارات الدولة، والتي حظيت بدعم وتغطية من مجلس الأمن الدولي ومن العواصم الغربية. وبعدما أظهرت التحقيقات الدولية صعوبة استمرار عملية التوقيف، وبعدما أظهرت التحقيقات الخاصة بملف بنك المدينة عدم وجود صلة قوية، بدا أن القاضي العدلي غير محكوم إلا بالاعتبارات السياسية، وهو الأمر الذي لا يعمّر طويلاً، وهذا ما دفع الى اختراع هذه الدعاوى الهادفة إلى تعطيل عمل القاضي عيد لشهور عدة على أمل أن يتم خلال هذه الفترة إيجاد الأرضية الصالحة لإبعاده نهائياً عن الملف، والإتيان بقاض آخر يحتاج إلى عام على الأقل لمراجعة الملف وتفاصيله، وهو ما يعني إبقاء هؤلاء قيد التوقيف لأطول فترة ممكنة، وهو الذي يوفر الأساس السياسي للبرنامج الذي تعمل عليه قوى 14 آذار.
وبحسب المصادر نفسها، فإن الأمر يتصل بمعركة كبيرة سوف تشنّ على هذا الملف. وإذا كانت قوى المعارضة قد مارست الصمت وضبط النفس طوال الفترة السابقة، فذلك كان احتراماً للمناخ الاجتماعي الذي واكب الجريمة، ولأجل عدم تفجير السلطة القضائية التي تعاني مشاكل كثيرة، لكن الأمر لم يعد بهذه الصورة، ويبدو أن القضاء سوف يكون مرّة جديدة أمام استحقاق الاستقلالية عن السلطات السياسية والأمنية، وإذا كان في القضاء من اشتكى سابقاً من تدخّل الجهاز الأمني والسياسي الذي كان يخضع للنفوذ السوري، فإنه اليوم لا يمارس تمنّعاً استثنائياً إزاء الضغوط التي يمارسها فريق 14 آذار السياسي والأمني. وهذا سبب كاف لبدء قوى المعارضة حملة بأشكال مختلفة تفرض على القضاء اتخاذ القرار المناسب، خصوصاً أنه لم يعد أحد في هذه الجمهورية مقتنعاً بأن من هم الآن في سجن رومية موقوفون وفق أدلّة قضائية، بل هم مجرد معتقلين سياسيين يجب العمل على تحريرهم، ومحاسبة من سبّب اعتقالهم وملاحقتهم ولو كانوا خارج لبنان. كذلك إشعار القضاء اللبناني بمسؤوليته المركزية في هذا المجال، وإخضاعه للمساءلة ولو تطلب ذلك رفع دعاوى على أفراد منه أمام الهيئات الدولية.