جوان فرشخ بجالي
يحاول علماء اللغات القديمة إنشاء متحف افتراضي عبر الإنـتـرنـت يجمع كل الرقم الطينية في العالم، فتصبح الأبحاث العلمية أسهل، وعلى رغم أن الطريق لا يزال طويلاً، يعطيه الاتفاق الذي وُقّع هذا الشهر مع المتاحف السورية زخماً جديداً

«متحف افتراضي عبر الإنترنت يعرض الرقم الطينية المغطاة بكتابات مسمارية من كل أرجاء العالم»، ذلك هو المبدأ الذي أطلقته جامعة كاليفورنيا بالاتفاق مع معهد Max Planck الألماني للأبحاث وجمعية علماء اللغات القديمة. والعمل جارٍ بلا انقطاع على هذا المشروع الضخم منذ أكثر من 15 سنة. وقد وافقت إدارات بعض الجامعات والمتاحف على المشاركة فيه، وسمحت بتوثيق مجموعاتها رقمياً ووضعها على شبكة الإنترنت لتصبح بمتناول أهل الاختصاص أو عشاق هذا العلم. وفي هذا الإطار، ودعماً منها لهذا المشروع العلمي، قررت مديرية الآثار والمتاحف في سوريا المشاركة في المشروع ووضع مجموعتها الخاصة من الرقم الطينية التي تتخطى 34 ألف قطعة على شبكة الإنترنت.
وأتت الموافقة من خلال اتفاق وقّعه المدير العام للمديرية العامة للآثار والمتاحف في سوريا الدكتور بسام جاموس مع البروفسور برتران لافون مدير قسم الآثار في المعهد الفرنسي للشرق الأوسط وأحد أهم المتخصصين في فرنسا في اللغات السومرية القديمة. وينص الاتفاق، بحسب لافون، على «أن يُبدأ العمل على إيجاد أرشيف رقمي (على الكومبيوتر) لكل الرقم الطينية المكتشفة أو الموثّقة في سوريا والمنشورة في الكتب العلمية. ويشمل الاتفاق كل الرقم الموزعة على متاحف الشام، وحلب، ودير الزور وإدلب». وأكد لافون أن العمل سيبدأ مع بداية الخريف، حينما تصل المعدات الضرورية من آلات تصوير وكمبيوترات... «وأولى المدن القديمة التي سيصبح أرشيفها الملكي على الإنترنت هي إبلا، تتبعها ماري ومن بعدهما أوغاريت، ومن ثم ستُنشر مجموعة الرقم المعروضة في متحف حلب». بالطبع هذا المشروع الضخم لن ينتهي في القريب العاجل، بل هو، كما يقول لافون، «مشروع حياة قد يتطلّب العمل عليه أكثر من 15 سنة».
مجموعة الرقم الطينية التي تمتلكها المتاحف السورية هي قطع أثرية مكتشفة خلال حفريات أثرية في أرضها، ولم تمتلكها الدولة بسبب قيام سلطات الاستعمار بوضع اليد عليها أو بسبب المتاجرة بها. ففي المتحف البريطاني إحدى أكبر مجموعات الرقم الطينية في العالم وقد امتُلك القسم الأكبر منها خلال فترات الاستعمار، وكذلك الأمر بالنسبة إلى متحف إسطنبول الذي كانت تُرسل إليه كل القطع الأثرية أيام حكم السلطنة العثمانية. أما بالنسبة إلى الجامعات، وخاصة الأميركية منها مثل يال وفيلادلفيا وكورنيل، فقد أسست مجمل مجموعتها من خلال عملية المتاجرة بالآثار منذ القرن التاسع عشر حين «عرف» أساتذتها بقيمة الرقم الطينية حتى قبل أن يستطيعوا قراءتها جيداً.
التاريخ بدأ عندما دوّن الإنسان القديم مشاعره ومشاكله وقصص ملوكه وآلهته على الرقم الطينية، أي مع أول حرف كُتب باللغة المسمارية على رقم في مدينة الوركاء في جنوب العراق منذ ما يزيد على 5000 سنة. لذا تلك القطع، التي تختلف أحجامها وأشكالها (بعضها يأتي كمسمار يُدفن تحت البيوت، أو كنص مغطّى بغلاف من الطين، أو رقم مستطيل، أو عريض...)، تحمل في حروفها تاريخ بداية حضارة الإنسان. وقراءتها قد تغيّر أو تحدّد بعض الحوادث التاريخية، ولكن لافون يشرح أن «توزّع هذه القطع عبر القارات يعوق تطوير هذا العلم ويؤخّر الدراسات الحديثة. فالعلماء مجبرون على السفر لقراءة النصوص القديمة وترجمتها، مع العلم بأن رقم الموقع الأثري الواحد غالباً ما تتوزع على أكثر من متحف. فملحمة غلغامش مثلاً موزعة على أكثر من خمسة متاحف وجامعات. من هذا المنطلق قرر علماء النقوش منذ بداية التسعينيات إنشاء هذا المتحف عبر الإنترنت».
ولكن بالطبع لا تُنفّذ مراحل هذا المشروع المختلفة بسهولة. فإدارات المتاحف الكبرى، مثل المتحف البريطاني واللوفر ومتحف إسطنبول، ترفض حتى الآن المشاركة في المشروع، وتعتبر أن الرقم الطينية ملك خاص لها، وهي من يعطي الموافقة للباحثين لدراستها ونشرها، وأن هذه المتاحف تجني أرباحاً طائلة من عائدات حقوق تصوير ونشر صور هذه الرقم في الكتب. لذا يعتبر الاتفاق الذي وقّعت عليه المديرية العامة للآثار والمتاحف في سوريا إنجازاً، فهي تبعت خطى بعض من المتاحف والجامعات العالمية لتسهيل العمل الأكاديمي العلمي.
موقع المتحف على الإنترنت:
www.cdli.ucla.edu