strong> رنا حايك
كانوا في ساحة الشهداء يوم الثاني عشر من تموز يحتجّون على اجتياح غزة. اختلطت الهتافات فجأة بأصوات الصواريخ التي انهالت على الضاحية الجنوبية ومطار بيروت الدولي فتغيّر مضمونها وتراجع الهمّ السياسي أمام الهمّ الإنساني.
سبعون شخصاً بعضهم ينتمي إلى جمعيات ومجموعات فلسطينية ولبنانية وبعضهم ناشطون أفراد قرّروا بعد ارتباك دام لبضع ساعات تغيير آلية العمل وتحويل البعد السياسي للاعتصام من أجل غزة إلى عمل إنساني ميداني لاحتواء النازحين اللبنانيين من الجنوب والضاحية إلى بيروت.
انتقل المعتصمون إلى مقرّ نادي اللقاء حيث حوّلوا مركز «أتاك» و«التجمّع اليساري من أجل التغيير» إلى غرفة عمليات.
بدأ خمسة عشر ناشطاً منذ 14 تموز بتنظيم ملفات عن العائلات النازحة والمدارس المستعِدّة لاستقبالهم. لجأوا إلى المعارف والأصدقاء لجمع التبرعات المالية والعينية، وفتحوا باب التطوّع واتصلوا بجمعيات أخرى لضمّ الجهود ثم ما لبثوا أن التحقوا بناشطين آخرين في «زيكو هاوس» المحاذي لـ«جنينة الصنائع»، قبلة النازحين.
تزايد الحشد في زيكو، بعضهم كان قد بدأ العمل، وبعضهم ما لبث أن التحق تحت مظلة «مركز الإغاثة ـــــ الصنائع» الذي أصبح في ما بعد «صامدون». الجمعية اللبنانية لمراقبة ديموقراطية الانتخابات، الحركة الاجتماعية، النادي الثقافي الفلسطيني، جمعية أجيال، الخط الأخضر، جمعية حلم، جمعية بيروت دي.سي، وكثيرون آخرون شاركوا في العمل.

قليل من الموارد وكثير من الحب

قُسّمت المهمات بشكل عفوي. اجتاز الأعضاء امتحان البيروقراطية والتقيّد بالشكل الهيكلي النمطي من دون الوقوع في فخ الفوضى. شكّلوا اللجان وتفرّغت كلّ منها لمهماتها: لجنة طبية تكفلت بمسح تفاصيل الصحة البيئية وبتوفير الموارد الطبية والصحية، لجنة إعلامية توفّر التواصل مع الإعلام وتصدر البيانات والنشرات إلى جانب تحديثها الموقع الإلكتروني، لجنة المعلومات، لجنة المحاسبة وجمع التبرّعات والهبات، ولجنة المخزن التي تتسلّم الموارد العينية وتوفّر طلبات النازحينوتخصّصت مجموعات العمل كلّ في أحد المجالات الحيوية، فعملت إحداها على توفير الوجبات الساخنة لنحو 12 ألف شخص ينتشرون في 33 مدرسة بعدما تبرّع لهم صاحب أحد المطاعم بالموافقة على استخدامهم مطبخه، بينما بذلت مجموعة المتابعة الاجتماعية والنفسية مجهوداً في احتواء مأساة النازحين وأطفالهم.
عمل المتطوّعون الذين وصل عددهم إلى نحو 450 شخصاً من الثامنة صباحاً حتى منتصف الليل أحياناً طوال فترة العدوان، وعقدوا كلّ يوم اجتماعاً تقويمياً، فحفّزتهم النتائج على تخطّي التعب والحزن. أما سرّ النجاح فيؤكد باسم شيت، عضو وحدة التنسيق، أنه كان في «الابتعاد عن منطق الإحسان في التعاطي مع الناس والنفعية في التعاطي مع المتبرّع». حدث التلاقي بشكل عفوي لكن منظّم، كما يتابع شيت: «صامدون هي من الحملات التي أثبتت قدرتها على القيام بدور فعّال على مستوى سياسي وإنساني من دون أن تكون جمعية أو أن تتحول إلى دكان».
فالحملة، التي بدأت على يد مجموعات سياسية، ما لبثت أن اكتظّت بمتطوّعين معظمهم من النازحين أثبتوا فعاليتهم في العمل المدني. وعلى رغم أن الموقف السياسي للمجموعات التي أسّست «صامدون» كان مركّباً إلا أنه استوعب المتطوّعين الذين انضموا لاحقاً على اختلاف اتجاهاتهم السياسية.

قصص النزوح

كتب أحمد السيد، أحد الناشطين، يومياته التي نسجها النازحون في جنينة الصنائع. فشرح كيف أصبحت الحديقة «نقطة التقاء أفراد العائلة الواحدة، حيث تلتقي البنت بأمها بعدما أضاعتها على دروب النزوح، ويُفاجأ الأخ بأخيه الذي فقد الاتصال به بعدما هربا في طريقين منفصلين من صريفا». يتحدث عن جعفر الذي «نزح من الجناح ويشتاق للبحر» وعن أمل التي استغرقت عشر دقائق لتجيب عن سؤال بسيط: «كم طفلاً لديها؟»، وعن مفيدة، النازحة من حارة حريك التي فقدت سمعها بفعل قذيفة سقطت جنبها خلال عملية عناقيد الغضب، وتنتظر أخبار زوجها المحاصر في مرجعيون، وابنها الوحيد الذي أصيب خلال عمله في الجنوب مع الدفاع المدني وما زال يعالج في أحد مستشفيات صور.
في جوّ مشحون بالتوتر، كان لا بد من نشاط ترفيهي يساعد النازحين على تفريغ قلقهم بعدما لاحظ المتطوّعون حجم الضغط الذي يتعرّض له النازحون. فشكّل اختصاصيّو التربية والطب النفسي منهم مجموعة تتابع حالتهم النفسية وتتيح لهم فرصة التعبير عن أنفسهمتؤكد علا عطايا أن التواصل لم يصبح ممكناً إلا بعدما توطّدت الثقة بين الطّرفين إلى درجة أن إحدى الطفلات تمنّت عليهم العودة معها إلى قريتها عندما حان وقت العودة، فهي وأصدقاؤها سيفتقدون النشاطات التي تنوّعت بين التعبيري كالرسم والغناء والمسرح، وورشات العمل كصناعة الدمى والموسيقى والجلسات الحوارية وقراءة القصص وتأليفها. وبرهنت هذه الأساليب عن فعاليتها. فقد توصّلت علا، مثلاً، إلى إعادة حسن إلى طبيعته من خلال مسرح العرائس: أتى به أبوه ذات يوم والوجوم بادٍ على وجهه. فابنه الذي يبلغ السنوات الثلاث لا يتحدث إلى أحد وينعزل يوماً بعد يوم. حسن شهد مجزرة مروحين، لكن العرائس أعادت إليه ضحكته خلال أيام.
وتشاركوا لحظات إنسانية عميقة، في كلية الفنون، جمعتهم ضحكة صافية حين احتفلوا بعيد ميلاد علي، أحد الشباب من النازحين، حيث قطعوا له بطيخة بدلاً من قالب الحلوى احتفالاً بعيده.
كان الأطفال يبكون فور ورود خبر تهدّم منازلهم، فركّزت ورشات العمل في الرسم والمسرح على فكرة أن البيت الذي يتهدّم يُعاد بناؤه، وأتاحت للأطفال رسم بيوتهم كما يحلمون بها، تزيّنها الألوان وتحيط بها الحدائق الزاهية.

وللإعلام دوره

ولأن حرب تموز كانت حرباً إعلامية إلى حد بعيد، التفتت «صامدون» على رغم كثرة المسؤوليات إلى ضرورة التعبير عن موقفهم السياسي وأرشفة وقائع الحرب ويومياتها والإعلان بالحملة وبنشاطها الميداني. فأنشأوا موقعاً إلكترونياً ونظموا مع «تلفزيون الجديد» حملة إعلانية، وعمدوا إلى إصدار نشرة غير دورية من صفحة واحدة تختصر الكثير. يشرح علي زراقط، المسؤول عن إصدار النشرة، أن الهدف منها كان «تحقيق نوع من الأرضية المشتركة للأعضاء الآتين من خلفيات سياسية مختلفة، وقد اتخذت منحى ثقافياً هدفه تأسيس لغة مشتركة في ما بينهم. أما البورتريهات فقد كانت موجّهة لشخصنة النازح حتى لا يبقى مجرّد رقم في إحصائية».
أدّى الموقع الإلكتروني دوراً أساسياً في التواصل مع الإعلام ومع الرأي العام العالمي، ولا سيما أنه متوافر بالنسخة الإنكليزية إلى جانب العربية. تضمّن حقائق الحرب والنزوح وتقارير وإحصائيات أعدّتها الحملة حول الخسائر المادية والبشرية. وساهم، مدعوماً بالإعلانات التلفزيونية التي أعدّها الناشطون بالتنسيق مع تلفزيون الجديد، في تسهيل الحصول على التبرّعات والهبات وانضمام متطوعين جدد.
أما النشرة فقد زيّنتها كاريكاتورات ناجي العلي وقصائد محمود درويش ومحمد الماغوط ومحمد علي شمس الدين. نقلت كلام النازحين ونشرت «بورتريهاتهم»... وتميّز العدد الخامس منها، الصادر في 31 تموز، بأنه كان عبارة عن صفحة سوداء، تظلّلها بضع كلمات تحاول اختصار الفاجعة التي ألمّت بأهل قانا للمرة الثانية بعد عشر سنوات بالضبط.

بعد الحرب

انتهت الحرب. تنفّس الجميع بعمق، وأتاح السكون الذي حلّ محل وقع الصواريخ سماعَ حشرجة الموت وعويل المأساة التي ظهرت أوضح وأكبر. أدرك الناشطون أن العمل لم ينتهِ، وأن المرحلة المقبلة قد تكون أصعب. عاد النازحون إلى مناطقهم فحلّ الناشطون ضيوفاً عليهم هذه المرة وتركّزت مقار «صامدون» في صور وصريفا وعيتا الشعب وتبنين، وتولّى كل مركز رعاية القرى المحيطة به.
بدأت هذه المراكز بتوفير المساعدات بعدما مسحت احتياجات نحو 25 قرية، وقام الناشطون، إلى جانب مشاريعهم الخاصة، بدور الوسيط بين الجمعيات التي توافدت على الجنوب لتقديم المساعدات، ومن يحتاجون إليها. ووصل عدد المستفيدين إلى 20 ألف شخص. بعض هذه المساعدات كانت من مخزن «صامدون» وما فاض عنه بعد العودة، والبعض الآخر كان لمؤسسات أخرى مثل «المفوضية العليا لشؤون اللاجئين» و«منظمة الغذاء العالمي» و«هيلفسويرك».
أما المشاريع الصغيرة فقد تكفّلت «صامدون» بتمويلها راصدةً مبالغ متواضعة يصل أقصاها إلى ألفي دولار للقرية. واستمرّ العمل الميداني في الجنوب حتى كانون الثاني 2006، ودّع بعدها الناشطون الأهالي وعادوا إلى أشغالهم آملين أن تكون اللقاءات التالية زيارات ودّية لا تتخلّلها مؤثرات خاصة من نوعية صوت الـ«إف 16».
ولدت «صامدون» من قلب المأساة، لا من تمويل دسم. أسّستها طاقة عارمة من الحب والإنسانية، لا «علم وخبر» ينصّب فلاناً مديراً على فلان. أنتجتها هذه الدوافع، فأثبتت فعاليتها وصدقيّتها على أيادي جيل من الشباب اللبناني أثبت بدوره قدرته على مواجهة الأزمات لا على إحياء الحفلات فحسب.