strong> جاد نصر الله
تلازم عباس خفة الظل. روح النكتة ملكةٌ تطبع محيّاه بابتسامة دائمة. يصعب التقاطه وتحديد مواعيد وجوده حين يعود من «العمل» في المواقع العسكرية. وَعَدَ أصدقاءه بأن الحل الوحيد سيكون بالتوسّط لدى أحدهم لنقله إلى مكان قرب المنزل في بيروت، بدوام جزئي لا يتجاوز خمس ساعات.
أول ما يفعله حين يباغتك يزيارة بعد الثانية عشرة مساءً، يخلع حذاءه من قدميه قبل أن يَلِجَ المنزل. عبثاً تحاول ثنيه عن الموضوع. يُعيد السبب الى ترابٍ عالق في كعب الحذاء. عناقٌ وتحيات متبادلة. تَشتمّ رائحة عرقه فتعرف أنه أتى تواً من هناك وخصَّك بالزيارة، الحذاء على الباب، يُعمِّد الدار...
يحمد الرب أن دوره في المناوبة صودفَ قبل نهارين من بدء المعارك. تخاصمَ وزوجته فيما كان يوضّب حقيبته للالتحاق بموقعه. جُنَّ جنونها لدى سماعها نبأ أسر الجنديين. شعرَ بقلقها. اتصل بها مطمئناً ومعتذراً وأمَّن ذهابها الى أهلها. يمازحها اليوم محذراً إياها من إزعاجه، «يمكن أن تتجدد المواجهات في أية لحظة، ولن تجدي وسيلة اتصال كي تقدمي لي اعتذاراتك وتستجدي عطفي».
يصعد عباس في السيارة ويعلن شعوره بالضيق والاختناق، «اعذرني، فهذه الآلية صغيرة على مقاسي، لا أجيد قيادتها. أنا لا أتقن التعامل سوى مع الآليات الضخمة (في اشارة الى ناقلات الصواريخ)». يضحك. تمتلئ ذاكرته بكثير من روايات الحرب والسلم: ليس عليهم أن يشغلوا بالهم بما يدور خارج الفضاء الحيوي لقرى الجنوب في الأيام العادية. وفي الوقت عينه لا تفوتهم تفصيلة مما يدور على حلبة السياسة المحلية.
«بعد اغتيال الرئيس الحريري تغيّرت المعطيات. بالطبع لم يتأثر عملنا على الأرض، لكن لا يمكن نكران انعكسات التغيرات السياسية». آلمهم استسهال الحديث عن سحب السلاح. «يطالبوننا بالتخلي عن كرامتنا. هل يعون حقاً خطورة ما يتفوهون به!».
هزّ الجدل والكلام الممجوج عن نزع سلاح المقاومة وجدانهم «رغم إدراكنا لا لصعوبة الأمر فقط، بل استحالته». يؤكد عباس أن الوضع على أحسن ما يكون حتى بعد انتهاء العدوان وعودة الهدوء على الجبهات، ورغم الانتشار الكثيف لقوات الحماية الدولية. جرى تعديل في بعض الإجراءات للتأقلم مع المعطيات. «لكننا ما زلنا نذهب ونعود كما المعتاد مع تعديل بسيط في الشق الإجرائي والشكلي».
لا يشكل عناصر الخوذ الزرقاء تهديداً بالنسبة إلى المقاومين على حد قول عباس. انتشارهم جنوبي الليطاني أبقى المعادلة قائمة على حالها. يعاملونهم كزوّار تجب مراقبتهم وإبقاؤهم مشغولين بمسائل بعيدة عن عمل المقاومة. «لماذا يعتقد البعض أن جنود اليونيفيل سيحدّون من حركتنا وعملنا المقاوم؟!» يستهجن عباس أحكام الناس المبرمة. فقبل اليونيفيل كانت مناطق الشريط الحدودي تحت سيطرة الإسرائيليين وينبت فيها العملاء كالفطر. وحتى بعد التحرير عام 2000 ما زالت استخبارات العدو تزرع العملاء، «أو تحسب أننا نقاتل في بيئة خالية من الشوائب أصلاً! الهواء يمكن أن يغدر بك هنا». لا يثق جنود «حزب الله» إلا بأنفسهم. يُطوِّعون كل عناصر الأرض والناس لخدمتهم من دون طلب الإذن. وغالباً ما يفلحون.
ذات يوم صيفي حار، طلب منهم التجمّع فجأة. أتى عدد من الشباب تقدمهم رجل ممتلئ الجسم بثياب مدنية، جالَ على العناصر ومدَّ يده إليهم. «اغرورقت عينا أحد زملائي حين أدرك أن من بادله التحية منذ لحظات كان السيد حسن نصر الله ولم يقدر على تمييزه بالبنطال والقميص وغياب العمامة».
قصص المقاومين لا تنتهي. قد يستغرب البعض أن الوضع في الحرب كان أكثر مرونة بالنسبة إليهم. تحركوا بحرية أكبر. هم أبناء الأرض وأسيادها. بَسطَ الجنوب سهوله لهم. حضنهم بأوديته.
ينفي بعضهم أن تكون قوتهم نابعة من كمية السلاح الذي جمعوه مع الوقت. يأخذ الجدال معهم أبعاداً دينية دائماً. يشرح أحدهم أنه لو «لم تمتلك المقاومة سوى أدوات المطبخ لقاتلنا بنفس الزخم. نحن نُعِدُّ لهم ما استطعنا من قوة... والباقي على الله».
توازي أهمية شجر الكينا والسنديان المنتشر بكثرة في أرض الجنوب صواريخ الكاتيوشا أهمية! «أوجدها لنا الله لتحمينا من طائرات الاستطلاع»، ليس في الأمر صدفة، «إن الله من فعل». حين يُعطى الأمر للمقاومين بإطلاق الصواريخ لا يطلب منهم العودة بالشاحنة. بين ثلاث أو أربع دقائق هي المدة التي يحتاجها إليها الاسرائيليون لرصد إحداثية المكان. ووفق هذه المعادلة ليست العودة بقاعدة الإطلاق المنصوبة على ظهر الشاحنة أولوية. أطلق أحمد صواريخه بسهولة بعدما أُعطي الأمر بذلك. بنظره كان يملك الوقت الكافي لسحب تجهيزاته. أراد ضرب عصفورين بحجر واحد. اصطاده الطيران الاسرائيلي بعد دقيقة ونصف. سابقة أولى في تاريخ المقاومة وتحطيم للرقم القياسي المسجل بتحديد الموقع من قبل الاسرائيليين. مقاوم آخر صعد في شاحنته وربط نفسه بحزام الأمان، أراد منع نفسه من القفز العفوي لحظة تواجهه طائرات العدو.
تسقط الدروس النظرية حين تدور رحى المعارك. سُمِحَ للمقاتلين بتدخين النارجيلة والسجائر وشرب «البيبسي». هي أيام نعيم لا تتكرر كل يوم. أحد عناصر الإسناد في فرق المقاومة التي شاركت في قتال «الطيبة» كان ينقل الصواريخ بسيارته «الستايشن»، فيما إحدى يديه تتحكم بالمقود، والأخرى تعالج الفحم على النارجيلة! ليس في الأمر مزحة. الحادثة مسجلة بالصوت والصورة.