نقولا ناصيف
مع الزيارة الأخيرة التي قام بها السفير السابق والرئيس السابق للإدارة العامة والأمن الخارجي في فرنسا السفير جان كلود كوسران للرياض بعد القاهرة، فُتِح باب التكهن بالمسار الذي يمكن أن تسلكه المبادرتان الفرنسية والعربية حيال لبنان في المرحلة المقبلة، وسط ترجيح هدنة يقبل عليها الوضع اللبناني للشهرين الآتيين. ويقترن هذا الاعتقاد بمؤشرات، منها:
1 ـــــ موازاة الجهود الفرنسية الأخيرة بالمبادرة العربية، وهو مغزى اجتماع كوسران بالأمين العام للجامعة العربية عمرو موسى في القاهرة. واستناداً إلى مصادر دبلوماسية معنية، فإن هذه الزيارة هي ردّ تحية من كوسران لموسى الذي كان قد قصد باريس بعد المسعى العربي الأخير في بيروت، بناء على قرار مجلس وزراء الخارجية العرب في 15 حزيران المنصرم. ورغم إخفاق ذلك المسعى، أراد موسى تعزيز المبادرة العربية بمساع فرنسية من شأنها التأثير في مسار الأزمة اللبنانية. بدوره، كوسران رغب أن يؤكد لموسى تضافر الجهدين الفرنسي والعربي توصلاً إلى هدفهما المشترك، وهو تجنيب لبنان الانهيار وإمرار الاستحقاقات الدستورية والوطنية بتوافق داخلي. وفي واقع الأمر، استناداً إلى المصادر الدبلوماسية المعنية ذاتها، لم تُرد باريس من مؤتمر الحوار في سان كلو استفزاز الجامعة العربية ولا تجاوزها، وقد تناولت جدول الأعمال إياه الذي قالت به الجامعة العربية، أي: حكومة وحدة وطنية وإجراء انتخابات رئاسية بتوافق فريقي الغالبية والمعارضة. إلا أن الدبلوماسية الفرنسية ارتأت عبوراً مختلفاً إلى هذا الهدف، تقول المصادر نفسها، هو تحريك الحوار اللبناني ـــــ اللبناني أولاً خلال العبارة التي أطلقتها الدبلوماسية تلك أكثر من مرة، وهي «إذابة الجليد»، وإعادة وصل ما انقطع قبل الخوض جدياً في تحريك مقترحات التسوية وحلولها.
2 ـــــ استكشاف الدور السعودي في لبنان في المرحلة المقبلة بعد انحساره منذ آذار الفائت، إثر انعقاد القمة العربية في الرياض. وأبرزت المصادر الدبلوماسية المعنية علامات استفهام عن هذا الانحسار بعد حرارة في سلسلة مبادرات سعودية صعبة في اتجاه إيران تمثلت بلقاءات أمنية رفيعة المستوى تركز الجهد الرئيسي فيها على الاستقرار السياسي والمذهبي في لبنان، وإنجاز اتفاق مكة بين الرئيس الفلسطيني محمود عباس وحركة حماس وصولاً إلى انفتاح على دمشق وإعادة وصل الخيوط المقطوعة بين البلدين منذ خطاب الرئيس بشار الأسد في آب 2006 وصولاً إلى استقبال الملك عبد الله نظيره السوري واجتماعه به على هامش قمة الرياض، وبدا أن كل هذه المساعي تصبّ في منحى سعي المملكة إلى إنجاح القمة العربية على أرضها أولاً وإحياء مبادرة العاهل السعودي، وسرعان ما تراجع العرش عن الاهتمام المباشر بالملف اللبناني وابتعد السفير السعودي في بيروت عبد العزيز خوجة عن دور الوساطة بين طرفي النزاع، فضلاً عن تردي العلاقات السعودية ـــــ السورية مجدداً. وبحسب المصادر الدبلوماسية نفسها، فإن كوسران يعوّل على دور سعودي ـــــ إيراني مواز للدور الفرنسي ـــــ الإيراني رغم تراجع حرارة الاهتمام السعودي ـــــ الإيراني بلبنان وتأخر زيارة كان قد أعلن أكثر من مرة عن اعتزام وزير الخارجية السعودي الأمير سعود الفيصل القيام بها لطهران.
3 ـــــ مع معرفة الدبلوماسي الفرنسي المخضرم بأن دمشق هي طرف أساسي في تحقيق الاستقرار في لبنان، فإن تبادل الإشارات الإيجابية بين فرنسا وسوريا، قبل اجتماعات سان كلو للحوار وبعدها، لم تعدُ كونها جسّ نبض بين طرفين ينظر كل منهما إلى لبنان على نحو مختلف، إن لم يكن مناقضاً للآخر. وبدا واضحاً أن الإيجابية السورية حيال باريس أعطت الأخيرة ما حجبته عن موسى والجامعة العربية، وهو إطلاق حوار لبناني ـــــ لبناني على الأراضي اللبنانية، من غير أن تغالي دمشق في نظرتها إلى المطلوب من مؤتمر سان كلو، وهي بذلك تكون قد قدّمت في الشكل أكثر منه في المضمون، فيما نجحت الجهود الفرنسية بسهولة في وضع ترتيبات هذا الحوار وآليته، لولا الخطأ (غير المحسوب؟) للرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي في حق حزب الله في الساعات الـ48 التي سبقت مؤتمر الحوار وسارع إلى تداركه.
4 ـــــ عودة التوازن إلى اللعبة الداخلية اللبنانية أكثر من أي وقت مضى منذ عام 2005، وقد أضحى أشبه بتوازن رعب. لم يعد أي من الطرفين يملك القدرة على التفرّد بقرار الاستحقاق الرئاسي سلباً ولا إيجاباً، في ضوء سلسلة المواقف الأخيرة التي رسمت سقوفاً له، وهي إجراؤه بنصاب ثلثي أعضاء مجلس النواب. وبعد تفكك أولي للأكثرية المطلقة في قوى 14 آذار، لم تعد هذه قادرة على التهديد الجدّي بما لا قِبَلَ لها بإنجازه، وهو انتخاب رئيس جديد للجمهورية بنصف النواب زائداً واحداً. بدورها، المعارضة غير الممسكة أساساً بنصاب مماثل للتهويل به، فقدت الذريعة التي كانت تتسلّح بها لتشجيع قيام حكومة أخرى في مواجهة حكومة الرئيس فؤاد السنيورة بسبب تلويح قوى 14 آذار بالاستئثار بإجراء الاستحقاق الرئاسي مستقلة. وهكذا يكون الفريقان قد أدركا أن أياً منهما غير قادر وحده، إيجاباً ولا سلباً، على المجازفة بمصير انتخابات الرئاسة الأولى، وأن كلاًّ منهما يحتاج إلى الآخر لإمرارها أو دفع البلاد إلى حافة انهيار خطير.
ومع أن من المبكر التعويل على تفكيك الائتلاف السياسي المهم لقوى 14 آذار، فإن نصاب الثلثين الذي استقطب التكتل الطرابلسي بعد نائب تيار المستقبل بهيج طبارة ورئيس لجنة الإدارة والعدل النائب روبير غانم الذي كشف بعد تسعة أشهر على اجتماع لهيئة تحديث القوانين عن إجماعها على نصاب الثلثين لالتئام جلسة انتخاب الرئيس الجديد، وكذلك النائب عبد الله حنا، فضلاً عن موقف سابق للنائب غسان تويني بتسليمه بنصاب الثلثين، وهو الذي خبر منذ انتخابات 1952 الاستحقاقات الرئاسية تحت سقف الثلثين المذكورين... كل ذلك ـــــ بالإضافة إلى موقف بكركي من خارج تجاذب القوى السياسية ـــــ يدفع قوى 14 آذار إلى تحديد المرجعية الفعلية لمقاربة استحقاق 2007. بيد أن أبواب المفاجآت لم توصد تماماً، وخصوصاً أن مقدرة قوى 14 آذار على التفرّد بانتخاب الرئيس الجديد للجمهورية تقتصر على يوم واحد، هو 14 تشرين الثاني المقبل، وهو اليوم العاشر الذي يسبق نهاية ولاية الرئيس الحالي إميل لحود. وإلى أن يأتي هذا اليوم، بعد اربعة أشهر، لن يكون في وسع هذه القوى الاجتماع في البرلمان للتفرّد بالاستحقاق، من دون مبادرة رئيس المجلس نبيه بري إلى تحديد موعد جلسة انتخاب الرئيس الجديد، الواحدة تلو الأخرى. لكن سباقها مع المعارضة في تبادل الضربات، يعزّز توقع المفاجآت تلك وتفكك التحالفات لدى هذا الفريق وذاك.