جوزف سماحة
ربما كان على المسؤولين الفرنسيين أن يطرحوا السؤال التالي على أنفسهم: هل بلدنا في موقع سياسي يسمح له بأداء دور أساسي في جنوب لبنان؟
الجواب، من وجهة نظر لبنانية، هو: كلا. لا يعني هذا الجواب عدم وجود قطاع شعبي ورسمي وسياسي واسع يتمنى هذا الدور. لكنه يعني أن الشروط لذلك في منطقة جنوبية حساسة غير متوافرة حتى الآن.
الغريب في الأمر أن التصريحات الرسمية الفرنسية توحي أن باريس تطرح على نفسها سؤالين آخرين. الأول، يتناول كيفية توزيع الأعباء بين الدول التي يحتمل أن تشارك في القوة الدولية. ويتناول الثاني نوع التفويض الممنوح لهذه القوة.
السؤالان، الى حدّ ما، خارج الموضوع الجوهري. فتوزيع الأعباء، كيفما حصل، لن يلغي أن القوات الفرنسية إذا حضرت ستكون محورية في ظلّ الغياب الأميركي والبريطاني وتردد ألمانيا التي تحتار في معرفة ما الذي يسمح به تاريخها وما الذي يمنعه. أما نوع التفويض فسؤال يقصد منه التعرف الى مدى اقتراب الولاية الممنوحة لهذه القوات من السياسة الفرنسية حيال لبنان وأزماته. وهنا المشكلة.
هنا المشكلة لأن فرنسا ليست، على الإطلاق، في وضعية من يستطيع أداء دور بنّاء في المنطقة الممتدة من نهر الليطاني حتى «الخط الأزرق». لنقل، من باب التحفّظ، إنها ليست في هذه الوضعية حتى
الآن.
فرنسا، منذ سنتين، جزء من المشكلة في لبنان لا جزء من الحل. فعندما يفاخر الرئيس جاك شيراك، في سانت بترسبورغ، وبعد أيام من العدوان الاسرائيلي، بأنه الأب الفعلي للقرار 1559 فإنه لا يفعل سوى تصنيف نفسه فريقاً لبنانياً ضد فريق آخر. فالقرار المشار إليه هو الذي افتتح دخول لبنان مرحلة الاضطراب الشديد. وحتى لو أنه، أي القرار، «أنجز» الخروج العسكري السوري فإن هذا «الانتصار» السلبي بعيد جداً عن أن يكون وضع لبنان على درب الخلاص. ومن يراجع وقائع السنتين الماضيتين يكتشف ذلك.
إن القرار 1559 عنوان من عناوين الانضواء الفرنسي تحت راية السياسة الأميركية الإجمالية في الشرق الأوسط. وهو يدل على ارتضاء باريس تقسيم عمل مع بريطانيا من أجل أن يقدّم كل بلد منهما خدماته كمستعمر سابق إلى السيد الاستعماري الجديد. التذرع بغير ذلك ليس مقنعاً. والقول إنه لا دخل لموضوع بآخر لا يرتقي الى مستوى الموقف السياسي الاستراتيجي الجاد. أكثر من ذلك، يمكن الادعاء أن السلوك البريطاني في العراق والفرنسي في لبنان لا يصبّان في المجرى الأميركي فحسب، وإنما في مجرى أميركي محدد يقوم على التبني الكامل للتوسّعية الاسرائيلية بذرائع
مختلفة.
منذ إصدار القرار والسياسة الفرنسية ضاغطة من أجل تنفيذه. ولم تبد باريس اهتماماً كافياً بقدرة هذا القرار على تفجير الوضع ولا بقابلية تحوّله الى غطاء للعدوان الاسرائيلي (تسيبي ليفني ذكّرت بأن الهجوم الإسرائيلي لا يهدف إلا الى تنفيذ قرار
فرنسي).
إن قراءة أولية للمواقف الفرنسية منذ اندفاع الهمجية الاسرائيلية تكشف، بسهولة، مدى التطابق والتماهي مع السياسة الأميركية(والإسرائيلية أيضاً). فعندما التقى شيراك الرئيس الأميركي جورج بوش في 16 تموز، عشية قمة سانت بترسبورغ، خرج ليقول إنه «مسرور لأن مقارباتنا للمشاكل هي نفسها». أضاف «في ما يخص لبنان أشارك تماماً الرأي الذي عبّر عنه الرئيس الأميركي بأن من الضروري تطبيق القرار 1559. ويجب، من أجل ذلك، ردع القوى التي تهدد الأمن والاستقرار والسيادة في لبنان». وفي اليوم التالي أصرّ شيراك على إطلاق غير مشروط للأسيرين الإسرائيليين ودان «الصواريخ التي تعتدي على... إسرائيل»، واتّهم «حزب الله» بالخضوع لأوامر غير لبنانية. إن الحزب «قوة تضرب استقرار لبنان» قال شيراك مكرراً ما يقوله إيهود أولمرت وعامير بيرتس وما أطنبتنا به جوقة لبنانية كاملة.
وعندما شرعت مشاريع القرارات ترد الى مجلس الأمن، من باريس وواشنطن، أو كليهما، كانت أقرب بما لا يقاس إلى ما تريده تل أبيب بما في ذلك الشق المتعلق بإبداء الأسف على ما يحلّ باللبنانيين.
ليكن واضحاً، إذاً، أن تعثّر الحملة الإسرائيلية دفع باريس الى بعض المراجعة. لم يعد مطلوبـــــاً تطويع الموقف اللبناني بالكامل خدمة لمصالح إسرائيل بل إدخال قدر من التعديل على السياسة الاسرائيلية من أجل حماية الحكومة اللبنانية. إلا أن الشبهة استمرت. وقيل إن فرنسا تأخذ هذه المسافة من أجل أن تحفظ لنفسها دوراً في المرحلة اللاحقة وتحديداً من أجل حماية قدرتها على أداء دور في الجنوب.
ها هي لحظة الحقيقة تقترب بعد وقف العمليات وبدء الإعداد لوصول القوات الدولية وظهور إرهاصات الفرز اللبناني حول كيفية فهم القرار الدولي الرقم 1701.
إن أي قرار فرنسي بالوجود في الجنوب اللبناني يجب أن يأخذ بالاعتبار أن التوجه الى هناك مختلف جذرياً عن التوجه نحو عقد اجتماع مع «قرنة شهوان» أو غيرها. لن تُستقبَل القوات الفرنسية كقوات تحرير ولا كقوات حفظ سلام. ستستقبل كأداة قادمة لاستكمال ما عجزت إسرائيل عن تنفيذه. هذه هي الحقيقة. هذا هو الواقع. أرض الجنوب معادية اليوم لحضور فرنسي تشكل السياسة الفرنسية المعروفة منذ سنتين خلفيّته وأساسه. فإذا أرادت فرنسا دوراً إيجابياً فعلاً، فإنها تعرف السبيل الى ذلك وتعرف العنوان اللبناني المعني.

16 آب 2006