strong> مهى زراقط
مرّ عام على الحرب الإسرائيلية، ولا يزال رمزي حيدر غاضباً. وأيّ حديث مع مصوّر «وكالة الصحافة الفرنسية» عن صُوَر العدوان يشعره بالاستفزاز بسبب «قلّة المسؤولية» التي لمسها لدى عدد من المصوّرين الشباب. يذهب أكثر من ذلك في انتقاده لعملهم، ويتحدث عن «متطفلين» في هذه الحرب. وحين يشعر بأنه بالغ في قسوته يستدرك بعد صمت قصير: «أنا لا أقلّل من أهمية هؤلاء الشباب. بعضهم مصوّرون محترفون، لكنهم تصرفوا بقلّة مسؤولية».
تأتي ردة الفعل هذه بسبب الضجة الكبيرة التي أثيرت عالمياً بعد «اكتشاف» تلاعب بواحدة من صور الحرب، وإن لم يكن هذا التلاعب إلا إضافة مزيد من الدخان إلى واحدة من الغارات على الضاحية الجنوبية.
وكان الاسرائيلي شارل جونسون صاحب مدوّنة Little Green Footballs هو من اكتشف التلاعب الذي مثّل بداية حملة اسرائيلية على وكالة «رويترز» التي بثت الصورة ومصوّرها، فكان أن استغنت الوكالة عن خدمات المصوّر، من دون أن يوقف هذا الأمر الحملة التي خيضت ضد مصوّري الحرب.
فقد أتاحت هذه الصورة التشكيك بعشرات غيرها منها مثلاً التشكيك بتكرار نشر صورة لامرأة تبكي منزلها المهدّم في الضاحية الجنوبية في تاريخين منفصلين (22 تموز و5 آب)، عبر وكالتين مختلفتين (رويترز ووكالة الصحافة الفرنسية). وهذا ما شرحه صاحب الصورة الثانية حسين الملا للأخبار في حينه: “هذه المرأة تتردد إلى الضاحية يومياً لتطمئن إلى منزلها ومنازل أولادها في بئر العبد ومعوض... التقيتها أمام مطعم الزغلول. وفعلاً كانت ترتدي الثياب نفسها”.
ولا يزال مصوّرو الوكالات يتلقون إلى اليوم اتصالات متكرّرة مع كل صورة «الآن فقط تلقيت اتصالاً من قبرص للتأكد من صور مخيم نهر البارد... لا نزال نعاني إلى اليوم مما حصل».
لا يرى رمزي أنه يعطي الموضوع أكبر من حجمه، لأن ما حصل كانت له تداعياته على سمعة المصوّر اللبناني الذي يعدّ الأكفأ في المنطقة: «لماذا نلغي جهداً جباراً أسسنا له ونحن نصوّر الاجتياحات، لم نتعرّض يوماً لأزمة مماثلة. أن يشكك أحدهم بصور المصوّرين اللبنانين الذين يُعَدّون الأهم في المنطقة والذين ينافسون كل المصوّرين
الأجانب».
وإن كان السؤال عن كيفية مرور تلك الصورة لا يزال مطروحاً «ابن عشر سنين كان يمكنه أن يكتشف هذا الخطأ ويمنع بثها، هناك من أراد إيصال رسالة أننا فعلاً نركّب الصور... لو كنت أعمل في «رويترز» لما سمحت بإمرار تلك
الصورة».
رغم القساوة التي يبدأ فيها رمزي حديثه، إلا أنه يحاول بعد أن يهدأ أن يجد مبرّراً للمصوّرين: «مشكلتنا نحن المصوّرين في الحرب الأخيرة أننا لم نكن نستطيع الوصول إلى الأماكن التي كانت تُرتكب فيها المجازر. كانت الحرب قاسية جداً هذه المرة. الإسرائيليون قطعوا التواصل بين قرية وقرية، وبقي الصحافيون في مدينة صور، على عكس الانطباع الذي قدّموه على الفضائيات». لكن هذا لا يعطي المبرّر للخطأ «إذا منعتني إسرائيل من الوصول، فهذا لا يبرر تركيب صورة. نصوّر الموجود أو نعود من دون صورة. أنا ذهبت إلى بنت جبيل وعدت من دون صورة لأني لم أجد ما أصوّره».
يعمل رمزي حيدر في «أ. ف. ب» منذ 18 عاماً، قلّة من أبناء جيله لا تزال تعمل ميدانياً. يؤكد أنه لا يستطيع أن يعيش من دون الصورة. «يحثني مديري على آخذ إجازة، لكنني أرفض دائماً، لأنني أشعر بضرورة أن أكون في مكان الحدث حتى لو لم أصوّر، هذا
إدمان».
كان رمزي حاضراً في ساحة الحرب منذ منتصف السبعينيات، وعايش كل الاجتياحات الإسرائيلية على لبنان. بدأ العمل في التصوير منذ عام 1978، «صوّرت الاجتياح وأكملت، صوّرت كل الحروب الإسرائيلية على لبنان» كما صوّر في السودان، تشاد، اليمن، العراق... «لكن هذه الحرب مختلفة بكل صراحة. كانت هناك خطة عند الإسرائيليين تقضي بألا يسمحوا لنا بإيصال صورة ما يرتكبونه». يعترف رمزي بشيء لم يعهده في تغطية حروب سابقة: «لم نكن نخاف في غيرها من الحروب... هذه المرة خفنا، والذي يقول إنه لم يخف فليذهب إلى البيت. القصة لم تكن تحتاج إلى أبطال، لأن البطل يموت في النهاية».
عندما التقيناه كان جالساً وسط مجموعة من زملائه في مكتب الوكالة، وما أن بدأ الحديث عن الحرب وصورها حتى انطلق نقاش داخلي عن الهجمة التي كان يتعرّض لها المصوّرون من الإسرائيليين والأميركيين عبر المواقع الإلكترونية.
برأيهم، كانت هناك حملة ممنهجة لمنع الصحافيين من الحصول على صور، لهذا يجزم رمزي أنه لا يمكن أي مصوّر القول إنه التقط «صورة» للحرب الأخيرة «لم أعد يوماً من موضوع وأنا أشعر بأني حصلت على صورةالحرب القاسية هذه المرة نتج منها غياب صورة لها «صوّرنا كثيراً، لكننا لم نلتقط صورة تعبِّر عن هذه الحرب. من أجل هذا طلعت الصرخة أن المصورين يتدخلون في الصورة. أعتقد أن هذا السبب الذي دفع بمصوّرين ليسوا في مستوى المسؤولية إلى التدخل في صورهم، وكان المصوّرون الذين يبيعون صورهم (free lancer) يسببون هذه الأزمة أكثر من غيرهم».
كثير من الانتقادات يوجهها رمزي للمصوّرين، منها أداؤهم في تصوير مجزرة قانا على سبيل المثال. فقد تشكك كثيرون في صحة هذه الصور بعدما التقطت صورة لطفلة ميتة أكثر من مرة، وفي مكانين مختلفين وبتواقيت مختلفة. يرفض رمزي القول إن تلاعباً بالصورة حصل، «لكن المصوّرين كانوا يحاولون تعويض خسارتهم في عدم الوصول إلى مكان المجزرة».
هذا ما حصل أيضاً عندما وقعت مجزرة مروحين، الطائرات الإسرائيلية منعت المصوّرين من الوصول إلى مكان المجزرة (وحده الزميل ناصر ناصر وصل)، ما أجبر المصوّرين على التقاط صور الضحايا في المستشفى: «أزعجتني كثيراً صورة في مجزرة مروحين. ليس خطأً التقاط صورة الجثث في المستشفيات، الخطأ هو الاستعراض وعدم احترام الموتى من أجل صورة مؤثرة. لا يمكن أن تطلبي من أحد أن يحمل لك جثة أحدهم لتصوريها، هذا ليس عملاً مهنياً. في مكان ما لم يحصل احترام للموتى».
برأيه يقوم المصوّر بوظيفته، ولا يؤدي رسالة «لسنا كشافة، هذا عمل نعيش منه. المسألة كيف تتعامل أنت مع هذا العمل. إيصال الحقيقة إلى الناس هذا هو عملنا. ليس مطلوباً مني أن أتدخل في هذ الحقيقة أو أن أشوّهها». وينبه رمزي إلى أن كلامه هذا لا يعني وقوف المصوّر على الحياد، وخصوصاً في حرب يتعرّض لها وطنه، لكن «الصورة بحد ذاتها منحازة. لا يمكنني عندما يكون هناك بيت مدمّر أن أصوّر البيت السليم. إذا كان هناك أطفال موتى فلن أصوّر الأحياء. هذا انحياز تمارسه الصورة وتفرضه».
ما يهمّ في الصورة برأيه هو الناس «لا أريد صورة دمار، كل الناس الذين يتعذبون. أنا أصوّر في المدارس. لم أملك الجرأة لأصوّرهم هناك».
عمل رمزي معظم الحرب في بيروت «البعض قال إن من بقي في بيروت لم يعمل. لكن هذا ليس صحيحاً. كانت أخطر بكثير، وقد تعرّضنا لخطر الموت أكثر من مرة، لأنك لا تعرفين أي بناية ستسقط. متى ستأتي الطائرات لتقصف. الذين بقوا في الجنوب لم يتحرّكوا كثيراً». لم يسمح له بالذهاب إلى قانا، رغم أنه طلب ذلك. «يشعر المصوّر بأنه يجب أن يكون في كل الأماكن. كنت في مركبا حيث كنت أرغب بتصوير الإسرائيليين هناك، ثم تم الاتصال بنا لكي نذهب إلى مروحين، يعني مسافة ساعتين. ضاع الوقت على الطريق ولم أنجز صورة في المكانين». والتقط صوراً مؤثرة لمجزرة الشياح «هي صورة قانا تتكرّر، من دون أن أتدخل أنا فيها».
متى يجوز التدخل في الصورة: «في أمور بسيطة، مثلاً مسموح أن أنادي رئيس مجلس الوزراء لينظر إليّ، وعندها ألتقط له صورته. لكن لا أطلب من الرئيس أن يمرّ في هذا الشارع لأصوّره».
يعتذر رمزي لقساوته في الحديث، لكنه يعي فعلاً حجم ما حصل، «الحملة علينا مستمرة، وعلينا ألّا نعطي الآخرين أي ذريعة ليسيئوا إلينا. كان يفترض بالإسرائيليين أن يسألوا أنفسهم عن نوع القنبلة التي استعملوها ودمرت البيوت وأحرقت الجثث، لا التشكيك بصورنا. كان هناك من لا يريدنا أن نوصل الصورة، لذلك كانت هناك هذه الحملة المبرمجةضدنا. أنا أدعو كل المصورين وأتمنى عليهم أن يقفوا ويعيدوا النظر أين أخطأنا وأين أصبنا في هذه الحرب لنواجه السلم بصور حلوة».